قلنا جميعاً إن الرئيس كلينتون حمل على الفلسطينيين وهددهم في مقابلته التلفزيونية الإسرائيلية، لا حباً بالسلام كما زعم، وإنما دعماً لزوجته هيلاري التي رشحت نفسها لمقعد في مجلس الشيوخ عن نيويورك. وفضلتُ شخصياً أن استشهد بجريدة "نيويورك تايمز" النافذة، فهي ربطت بين الخطاب وترشيح زوجته. وأزيد اليوم رأي الإسرائيليين أنفسهم في المقابلة، فتحت عنوان "فتش عن المرأة" نشرت "يديعوت أخرونوت" لأورلي ازولاي - كاتز، هذا الكلام حرفياً: "إن خيبة أمل كلينتون في الفلسطينيين كانت ثانوية في حديثه عن نقل السفارة الأميركية الى القدس، فالسبب هو الحملة الانتخابية لهيلاري في نيويورك". وقال هيمي شاليف كلاماً مماثلاً في "معاريف" فهو ربط كلام الرئيس الأميركي بحملة زوجته وزاد أن كلامه سيضر بعملية السلام. وثبت الآن أن رئيس وزراء إسرائيل ايهود باراك طلب من كلينتون وهو عائد الى إسرائيل مساعدته للتغلب على مشكلاته إزاء الكنيست، إلا أنه يبدو أن الرئيس الأميركي ساعده أكثر مما طلب، ما جعل شاليف يصف المقابلة مستعيراً من كلام مشهور لنيل آرمسترونغ بعد هبوطه على سطح القمر، فقال إن المقابلة التلفزيونية كانت خطوة واسعة لباراك، إلا أنها خطوة صغيرة لعملية السلام. طبعاً، كلينتون كذاب محترف، لذلك زعم في مقابلته التلفزيونية أن الفلسطينيين وافقوا في قمة كامب ديفيد على دفع تعويضات للاجئين اليهود الذين فروا الى إسرائيل من دول عربية، كما تدفع تعويضات للاجئين الفلسطينيين الذين فروا من إسرائيل. غير أنني سألت اثنين من الوزراء الذين رافقوا أبو عمار الى كامب ديفيد عن هذا الموضوع، فقال الاثنان كلاماً واحداً في حديثين هاتفيين منفصلين هو أن أبو عمار قال إن الفلسطينيين غير معنيين بهذا الموضوع، لأن اليهود لم يفروا من بلدهم أي بلد الفلسطينيين. وما لم يقله كلينتون في المقابلة هو ان نقل السفارة طرح في قمة كامب ديفيد، واعترض عليه الفلسطينيون. على كل حال، السيدة هيلاري كلينتون أكملت من حيث توقف زوجها، فهي قالت في مقابلة إذاعية: "كان واضحاً أن رئيس الوزراء ايهود باراك جاء وهو مصمم على تحقيق صفقة سلام تضمن أمن إسرائيل والمنطقة كلها، وأنه من المؤسف ان ياسر عرفات لم يظهر الالتزام نفسه". والكلام السابق واضح، إلا أنني زيادة في الإيضاح أسجل أنها ذكرت لقب باراك ولم تعط الرئيس الفلسطيني أي لقب، ولو كلمة "سيد" تهذيباً، وأنها قالت إن السلام الذي طلبه باراك يضمن أمن إسرائيل، لأنها تريد أن تساعده مع الناخبين الإسرائيليين كما يريد زوجها، وأنها وزوجها بالتالي خاب أملهما في الرئيس عرفات لأنه لم يعط إسرائيل السلام الذي يضمن أمنها. لو أن أبو عمار تخلى عن القدس لاعتبره كلينتون بطل السلام، وربما كان قال عنه ما قال عن باراك فوجده أكثر إبداعاً في طلب السلام وأكثر جرأة. غير أن أبو عمار لم يفعل، وإنما صدم الأميركيين بإصراره على مبدأ الأرض مقابل السلام، وبالتالي على السيادة على الأراضي المحتلة كلها، بما فيها القدسالشرقية. وقال لي وزير عائد من كامب ديفيد إن الأميركيين حاولوا إغراءه بمكتب في القدس، وبرفع العلم الفلسطيني على الحرم الشريف، إلا أنه طالب بالأماكن المقدسة المسيحية مع الإسلامية، ورفض كل التنويعات الأميركية على العرض الأميركي الأصلي، التي تراوحت بين السيادة على قرى خارج القدس، والسلطة على مناطق داخلها. بعض الوزراء العائدين يقول إن العرب تركوا أبو عمار وحده في كامب ديفيد، وإن بعضهم كان يريد منه أن يتنازل ويستسلم حتى يتهموه بالخيانة، ويرفعوا المسؤولية عن أنفسهم. وربما عبّر هذا الكلام عن شعور المفاوض الفلسطيني بالألم، إلا أنه ليس صحيحاً كله، فمصر أيدت المفاوضين الفلسطينيين علناً الى درجة أنها أغضبت الأميركيين، وموقف المملكة العربية السعودية من القدس معلن، وهي تصر على السيادة العربية عليها، وقد طالبت أبو عمار أن يؤكد هذا الحق ويصر عليه، وكذلك موقف سورية وغيرها. وكان موقف الصحافة العربية في مصر والمملكة العربية السعودية ودول الخليج واضحاً جداً في اليومين الأخيرين، فهو أيد الصمود الفلسطيني، وحمل على الولاياتالمتحدة، فأجمع المعلقون على أنها لم تعد وسيطاً محايداً أو شريفاً كما زعمت. الولاياتالمتحدة لم تكن يوماً وسيطاً محايداً أو شريفاً، وإنما أمل بعض العرب أن تكون كذلك بسبب العلاقة الطيبة التي تربطها ببعض الدول العربية، وكلام كلينتون على التلفزيون الإسرائيلي لم يفعل شيئاً سوى إزالة القناع عن وجهه. المهم من كل هذا أن أبو عمار صمد مرة، إلا أنه لا يستطيع أن يصمد وحده، وربما أدى غليان الشارع العربي، كما عبرت عنه الصحافة العربية الى زيادة الضغط على الحكومات للوقوف صفاً واحداً في وجه الانحياز الأميركي المكشوف نحو إسرائيل. وكان أبو عمار في وجه التهديدات الأميركية إذا أعلن دولة مستقلة من طرف واحد، ذكّر الأميركيين قبل غيرهم أن هذه الدولة كانت ستعلن في أيار مايو 1999، بموجب اتفاقات أوسلو لسنة 1993، إلا أن إعلانها أرجئ بالتشاور مع الأشقاء والأصدقاء، بمن فيهم الرئيس كلينتون نفسه. وزاد أبو عمار هذه المرة أن الفلسطينيين سيعلنون دولتهم في الوقت المناسب، وبعد التشاور مع الأشقاء والأصدقاء. وهو كلام يعني أن أبو عمار قد لا يعلن الدولة المرجوة في أيلول سبتمبر إذا وجد أنه من دون دعم عربي وإسلامي كافٍ مرة أخرى.