أدى التعتيم الاعلامي الرسمي المفروض على قمة كامب ديفيد الى عكس الهدف منه، فهو أثار موجة من التسريبات تراوحت بين النجاح الكامل والفشل المطبق، من دون توافر وسيلة رسمية للتثبت من مدى صحة هذه الاشاعة أو تلك. ما استطيع أن أقول بثقة هنا هو ان الصحف الاسرائيلية كافة، والصحافة الاميركية معها، أجمعت على ان رئيس الوزراء إيهود باراك قبل الاقتراحات الأميركية، وان الرئيس ياسر عرفات لم يرد عليها بعد. وهو اذا حدث فمعناه ان اسرائيل وافقت للمرة الأولى على اقتسام السيادة في القدسالشرقية، أو مشاركة في السيادة على بعض اجزائها، فالاقتراح الاميركي يدعو الى تجميد الوضع النهائي للقدس سنوات أخرى. هل حدث كل هذا؟ بعض المصادر الفلسطينية التي أثق بها قالت ان الفلسطينيين انتزعوا حتى الآن 95 في المئة من الأرض، وسيطرة أو سيادة على اجزاء من القدسالشرقية. الا ان مصادر فلسطينية أخرى أثق بها قالت ان باراك لم يقدم شيئاً فعلياً بعد، وان المطروح هو في الواقع عملية علاقات عامة اسرائيلية، حتى اذا فشلت القمة يستطيع باراك ان يقول انه حاول جهده، وان يحمل الفلسطينيين تبعات الفشل كاملة. على كل حال، مرت نهاية الاسبوع في كامب ديفيد بهدوء، ومع عودة الرئيس كلينتون من طوكيو، فإن القمة ستنتهي بفشل او نجاح، أو شيء بين هذا وذاك، قبل أن ينقضي الأسبوع فنعرف أي التسريبات كان الأقرب الى الحقيقة. ومع الشك في مصادر التسريبات الصحافية وأسبابها نرجح ان ما حدث فعلاً هو المعروف عن طلب الاميركيين تأجيل حسم وضع القدس سنوات، وطلبهم في الوقت نفسه ان يتضمن أي اتفاق "اعلان نهاية النزاع"، وهو موقف يناقض نفسه، لأنه طالما ان القدس غير متفق عليها، فكل اتفاق آخر يصبح ثانوياً أو مرحلياً. والاميركيون غلفوا اقتراحاتهم بالسكَّر فهم اقترحوا أن توع القرى الفلسطينية حول القدس تحت السيادة الفلسطينية الكاملة، وفي المقابل تضم المستوطنات الاسرائيلية المحيطة بالقدس الى المدينة المقدسة. ولا توازن اطلاقاً في هذا الاقتراح على رغم ظاهره، فالاسرائيليون لا يريدون حكم 200 ألف فلسطيني في القدسالشرقية وحولها، والاقتراح الأميركي يحول المسؤولية عنهم الى السلطة الوطنية ويمنّ عليها بذلك، مع انه اقتراح يعفي اسرائيل من مواجهة 200 ألف عدو وسط عاصمتها، من دون اعطائهم السيادة المطلوبة في المقابل. ولا تسريب في أن باراك قبل العرض الاميركي، فقد صرح بذلك عدد من الوزراء المرافقين له، ولا غرابة في ذلك فالعرض يقع ضمن الخطوط الاسرائيلية الحمر، كما قال وزير شؤون الهجرة مايكل ملشيور لراديو اسرائيل. وفي حين أعلن باراك ان موافقته مربوطة بالوصول الى اتفاق نهائي، وانه في حال عدم التوصل الى اتفاق فإن كل ما وافقت اسرائيل عليه يصبح باطلاً ولاغياً، فقد كان واضحاً من ردود الفعل داخل الجانب الاسرائيلي ان هناك فيه من يعتبر رسالة باراك الى كلينتون بقبول مقترحاته، وثيقة تاريخية تقبل فيها اسرائيل تقسيم القدس. يبدو أن ثمة انشقاقاً في الموقف الاسرائيلي يزيد من الشكوك في تفاصيل العرض الاميركي وفي رد باراك عليها، فالوزيران شلومو بن عامي وأمنون ليبكين شاهاك طلبا من باراك تقديم تنازلات للفلسطينيين في مقابل نهاية النزاع، غير انه يرفض تقديم التنازلات المطلوبة في هذه المرحلة، ويفضل حكماً ذاتياً. أي بلدياً، للفلسطينيين في القدسالشرقية من دون سيادة. ولكن اذا كان هذا صحيحاً، فهو يناقض ما "تنازل" عنه في رسالته الى كلينتون. ولا حاجة بنا للعودة مع كل تسريب الى أصوله لنعرف هل هو متصل أو منقطع، وهل كان ناقلوه أهلاً للثقة بكلامهم، فالموضوع سيحسم بشكل أو بآخر هذا الأسبوع. ما نعرف هو أن ابو عمار رفض حتى الآن التسليم بشيء في موضوع القدس، وعندما وبخه الرئيس الأميركي وطالبه بالمرونة إذا أراد الوصول الى اتفاق قال أبو عمار: أنتم لا تتفاوضون معي، وإنما تتفاوضون مع السعوديين والمصريين والسوريين والاردنيين والمغاربة وكل العرب والمسلمين. وهناك ألف مليون مسلم لن يغفروا لي تسليم القدس. هل حدث هذا أم هو تسريب آخر من كامب ديفيد؟ ولكن ما ليس مجرد تسريب بل حقيقة، هو أن الرئيس كلينتون اتصل هاتفياً بزعماء الدول العربية الرئيسية ليطلب مساعدتها في اقناع الرئيس الفلسطيني بالاقتراحات الاميركية. والمطلوب من هذه الدول ليس اقناع أبو عمار أو الضغط عليه، بل الضغط على الولاياتالمتحدة للكف عن محاصرة الجانب الفلسطيني، ولاقناع الرئيس الاميركي بتقديم اقتراحات، معقولة، يمكن أن يوافق عليها الفلسطينيون. وأبو عمار يحتاج الى هذا الضغط العربي المضاد على الاميركيين، لأن المسؤولية عن القدس مشتركة ولا تفويض من أحد يعطي أبو عمار حق التصرف بها وحده.