الذهب يتراجع والدولار يصعد والأسهم الآسيوية تحلّق    أمير جازان يرعى انطلاق فعاليات النسخة الثانية من "موسم التشجير الوطني    السعودي الألماني الصحية تستعرض شراكاتها وإنجازاتها الريادية في ملتقى الصحة العالمي 2025    وزير الصحة يزور ركن تجمع الرياض الصحي الأول ويطّلع على أبرز مبادراته في ملتقى الصحة العالمي 2025    الجلاجل يطلق مركز القيادة والتحكم الأول من نوعه بالعالم لمتابعة حالات السكري    طيران دلتا يعلن عن تدشين أولى رحلاته المباشرة بين أتلانتا والرياض اعتباراً من 2026    مركز الملك فهد لأورام الأطفال : 3318 عملية زراعة خلايا جذعية و150 سنويًا للأطفال    تركي بن محمد بن فهد يزور مجلس التنمية الاقتصادية في مملكة البحرين    الكاراتيه ينهي بطولته المفتوحة    القيادة تعزّي ملك مملكة تايلند في وفاة والدته الملكة سيريكيت    رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية يغادر المدينة المنورة    رئيس وزراء جمهورية ألبانيا يصل إلى الرياض    الشورى يقر توصيات لتدريب وتأهيل القاصرين لاستثمار أموالهم بفاعلية    نائب أمير الشرقية يطّلع على جهود جمعية "انتماء وطني"    يايسله يختار بديل رياض محرز    انطلاق أعمال اليوم الثاني من القمة العالمية للبروبتك 2025 بمناقشة التحول العقاري الذكي والابتكار المستدام    القيادة تهنئ الحاكم العام لسانت فنسنت وجزر الغرينادين بذكرى استقلال بلادها    الاحتلال الاسرائيلي يعتقل 20 فلسطينياً    أكثر من 11.7 مليون عمرة خلال ربيع الآخر    والدة الإعلامي أحمد الغامدي في ذمة الله    جمعية نماء للخدمات الاجتماعية تطلق دورة "تصميم الجرافيك للمبتدئين" بجازان    تحت رعاية خادم الحرمين.. انطلاق النسخة ال9 من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار بالرياض    لأن النفس تستحق الحياة".. جمعية "لهم" تُطلق فعالية توعوية مؤثرة في متوسطة 86 عن الصحة النفسية والإدمان    أوكرانيا تستهدف موسكو بعشرات الطائرات المسيرة    لبناء القدرات وتبادل الخبرات وزارة الدفاع توقّع مذكرات تعاون مع 10 جامعات    إنطلاق الملتقى العلمي الخامس تحت عنوان "تهامة عسير في التاريخ والآثار "بمحايل عسير    أمانة نجران 4287 جولة وزيارة خلال أسبوع للصحة العامة    فريق مصري يبدأ عمليات البحث في غزة.. 48 ساعة مهلة لحماس لإعادة جثث الرهائن    الدروس الخصوصية.. مهنة بلا نظام    «التعليم»: لا تقليص للإدارات التعليمية    هيئة «الشورى» تحيل تقارير أداء جهات حكومية للمجلس    إنستغرام يطلق «سجل المشاهدة» لمقاطع ريلز    إسرائيل تحدد القوات غير المرغوب بها في غزة    تمهيداً لانطلاق المنافسات.. اليوم.. سحب قرعة بطولة العالم للإطفاء والإنقاذ في الرياض    قيمة الدعابة في الإدارة    2000 زائر يومياً لمنتدى الأفلام السعودي    الصحن الذي تكثر عليه الملاعق    المخرج التلفزيوني مسفر المالكي ل«البلاد»: مهندس الصوت ومخرج المباراة يتحملان حجب أصوات جمهور الاتحاد    أثنى على جهود آل الشيخ.. المفتي: الملك وولي العهد يدعمان جهاز الإفتاء    تركي يدفع 240 دولاراً لإعالة قطتي طليقته    يامال يخطط لشراء قصر بيكيه وشاكيرا    المعجب: القيادة حريصة على تطوير البيئة التشريعية    إثراء تجارب رواد الأعمال    علماء يطورون علاجاً للصلع في 20 يوماً    كلية الدكتور سليمان الحبيب للمعرفة توقع اتفاقيات تعاون مع جامعتىّ Rutgers و Michigan الأمريكيتين في مجال التمريض    480 ألف مستفيد من التطوع الصحي في الشرقية    غوتيريش يرحب بالإعلان المشترك بين كمبوديا وتايلند    رصد سديم "الجبار" في سماء رفحاء بمنظر فلكي بديع    8 حصص للفنون المسرحية    صورة نادرة لقمر Starlink    قافلة إغاثية سعودية جديدة تصل غزة    المعجب يشكر القيادة لتشكيل مجلس النيابة العامة    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنفيذ البرنامج التثقيفي لمنسوبي المساجد في المنطقة ومحافظاتها    الضمان الصحي يصنف مستشفى د. سليمان فقيه بجدة رائدا بنتيجة 110٪    116 دقيقة متوسط زمن العمرة في ربيع الآخر    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هيفاء بنت تركي    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الأميرة هيفاء بنت تركي بن محمد بن سعود الكبير آل سعود    نائب أمير نجران يُدشِّن الأسبوع العالمي لمكافحة العدوى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لصوصية الفكر محنة ثقافة آفتها الركود وقلة التفكر
نشر في الحياة يوم 06 - 04 - 1999

إذا كان هذا العنوان يصدم القارىء، أو يوحي اليه بتشاؤم ليس مستعداً لاستقباله، فإني أعتذر أولاً، وأقول في تبريره ثانياً: لم يعد خافياً على أحد أن الظاهرة التي نتكلم عنها أسهمت كثيراً في تردّي الخطاب الديني، والفكري، في العصر الحديث، وأصبحت ظاهرة منتشرة ينبغي التصدي لها صوناً لهذا الخطاب وضماناً لتجدده.
لقد عرف التاريخ الفكري والأدبي في الإسلام ظاهرة الانتحال، وهي أن ينحل المصنف نفسه مؤلفَه كاتباً مشهوراً للترويج، كما فعل الجاحظ في بعض كتبه، وكما فعل الشاعر حماد بن سابور، وخلف بن حيان، وابن دأب عيسى بن يزيد، حيث نحلوا شعرهم، وقد يقع الانتحال لظروف تاريخية ناشئة من اختلاط الوثائق المتأتي من البعد الزمني، كما حصل لبعض كتب أرسطو مثل كتاب "أثولوجيا" مثلاً فقد تبين أخيراً أنه منحول إذ هو في الواقع بعض أجزاء من تاسوعيات أفلوطين.
هذا كله لا بأس بإدراجه ضمن الظواهر الأدبية، والى جانب هذه الظاهرة، شهد التاريخ الفكري في الإسلام، ظاهرة من نوع آخر هي "السرقات الأدبية" إنما على نطاق ضيق. وتطلعنا كتب التراث التي تعنى بالنقد الأدبي، أمثال مؤلفات الآمدي، والجرجاني، والثعالبي، وأبي الهلال العسكري والأصفهاني، وغيرها على الكم الخجول للسرقة هذه التي لم يسلم منها كبار الشعراء، واتهامات أبي فراس الحمداني لأبي الطيب المتنبي معروفة.
يتحدث الجرجاني عن قدم السرق بقوله: السرق - أيدك الله - داء قديم، وعيب عتيق. ويحمل معنى السرق في مصطلح النقد الأدبي العربي الكلاسيكي مضموناً لطيفاً ذا مغزى عميق، فليس المقصود منه أن تأخذ النص المسروق بلفظه ومعناه، وتوهم الناس نسبته الى نفسك فحسب، وان كان هذا من أخس أنواع السرق، ونادر الوجود، بل المقصود منه أولاً وبالذات سرقة المعنى، وهو الذي عنوه بقولهم: ولا يقدر أحد من الشعراء السلامة منه3.
قالوا: والسرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه... وهو في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة التي هي جارية في عاداتهم، ومستعملة في أمثالهم، ومحاوراتهم.
ومن أنواعه عندهم نظم النثر محل الشعر.
ولأجل ذلك شدّد النكير على المتنبي كل من أبي الفرج الأصفهاني، وابن العميد، والصاحب بن عباد، وأبي علي الحاتمي، وأبي الحسن بن لنكك البصري، والآمدي، والجرجاني، وابن وكيع في "المنصف" إلا أنه أسرف في مقدمة كتابه هذا، ونعم ما قال فيها ابن رشيق: أنه لا يصح لأحد معها شعر إلا الصدر الأول ان سلم ذلك لهم.
إذا كان النقاد العرب القدامى يرون في الإقدام على أخذ معنى ما ثم صبه في قالب جديد، وحلة لفظية جديدة، شعراً ونثراً، لصوصية وسرقة. وهنا أدعو الى مشاركتي في تحليل الرسالة الحاتمية المشهورة، على الرغم من تعسف الحاتمي في حكمه فيها على المتنبي. فإن الرسالة الى جانب كتب النقد الأدبي في التراث الإسلامي مع اتفاقها في الوجهة العلمية التي يراد إبرازها، تشكل سابقة خطيرة، وخطورتها ليست فيما ذكرت من نصوص بل فيما تحكي عنه النصوص، وهو أن القدماء كانوا يعيشون هاجس الإبداع في كل شيء، وعلى كل الصعد العلمية، والكتابة إبداع، والإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم كما يقول أدونيس. والظاهر أنه كلما كان هنالك إبداع، فسيكون هناك من هو على استعداد للإغارة عليه، لكي ينسبه الى نفسه.
وقد يجوز أن نعثر في أمهات التراث ومظانه على اغارة شاعر من الشعراء على قصيدة كاملة لشاعر آخر كما سيأتي، إلا أنه في مجال النثر نملك وثيقة ترينا أن أقدم عملية سطو تعود الى القرن الرابع للهجرة، وهذه الوثيقة رسالة صغيرة الحجم للسيوطي 849 - 911 "الفارق بين المصنف والسارق" يتهم فيها السيوطي بعض معاصريه، ممن امتهن السرقة والإغارة على كتب المصنفين بسرقة بعض كتبه، وذكر فيه جملة سرقات كان ضحيتها أبا حامد الأسفرائيني 344 - 406 على ما حكاه الإمام السبكي 727 - 771 وحين قيل للأسفرائيني، إن فلاناً صنف كتباً كثيرة، قال: أروني إياها، فرآها مسروقة من كتبه، فقال: بتر كتبي بتر الله عمره.
وممن تعرض للسرقة أيضاً الإمام أبو شامة 599 - 665، والحافظ ابن حجر العلامة المشهور، حيث سطا كبير تلاميذه على كتابه "الطبقات" وأخذ منه الكثير، ولم يعزها اليه وبركة العلم عزوه الى أهله وقائله"... والله إن سارقاً يسرق الأشعار، وهي بالنسبة الى العلم رخيصة الأسعار، فيعز على المسروق منه ويشتد، وينبه على سرقته ويعتد، ويساعده على ذلك أهل الأدب... ويؤلفون الكتب في هتكه... ألم ترى الى كتاب "الحُجة في سرقات ابن حِجة" الى أن ساق خبر سرقة نجم الدين بن اسرائيل 603 - 677 قصيدة مهذب الدين الخيمي 603 - 685.
غير أن ذلك لا يشكل ظاهرة تراثية، كما لا ينشأ البيت والبيتين من الشعر لغة أو قاعدة نحوية، ولا تعدو أن تكون فلتات الى أن أصبحت في هذا العصر ظاهرة اجتماعية مرضية.
ويمكن عزو انفلاش ظاهرة السطو على الكتب والأبحاث في العصر الحديث الى تطور تقنيات الكتابة والطباعة، وآليات التواصل المعرفي، فأصبح من الميسور أن يسطو من في الشرق على مقالة، أو كتاب كامل طبع أو نشر في صحف ومجلات المغرب، وما زالت الضجة التي أثيرت حول بعض أعمال توفيق الحكيم ماثلة لمن واتته الهمة في تتبع المسلسل القديم الجديد "السرقات الأدبية" وهاك أمثلة عنها ذكرها مصطفى سليمان في مجلة العربي:
قالوا ان الشاعر الإنكليزي ملتون مؤلف الفردوس المفقود قد اقتبس موضوعه، ومواقفه، وعباراته - حرفياً أحياناً - عن شاعر إيطالي مغمور، كان معاصراً له، حتى عثر نورمان دوجلاس على نسخة وحيدة من رواية أداموكانتو لمؤلفها الإيطالي سرافينوديللا سالاندرا.
ويروي المازني أن عباس محمود العقاد أعاره قصة تاييس - مؤلفها أناتول فرانس - ليقرأها، وبعد عدة أيام أعاره قصة إنكليزية أخرى من تأليف تشارلز كينجزلي اسمها هايبيثيا، وكان العقاد يريد أن يلفت نظره الى التطابق الكامل بين الروايتين. والغريب أن النقاد يتهمون المازني والعقاد أنهما استوحيا كثيراً من أشعارهما، من المجموعة الشعرية الإنكليزية بإسم الكنز الذهبي!!
ونشرت مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 22-1-1979 موضوعاً عن القصة العراقية، بقلم جوزيف كيروز، بعنوان بحث عن الإنسان وحرية الجسد. وكان نقلاً حرفياً عن بحث للكاتب القصصي عبد الستار ناصر من العراق، وقد نشر في مجلة الموقف الأدبي بالعدد 12 - نيسان ابريل 1975 - بعنوان إشارات أولى في القصة العراقية المعاصرة، ولم يتغير غير العنوان.
أما الأستاذ المغربي محمد محمد الخطابي فقد كشف جذور بحث للدكتور محمد التونجي نشره في دورية اللسان العربي الصادرة عن مكتب تنسيق التعريف بالرباط، المجلس الثالث عشر 1976 إذ قال الأستاذ الخطابي إن بحث الدكتور التونجي رأي في جذور الضمائر العربية، يكاد يكون اقتباساً كاملاً عن بحث للأستاذ عبد الحق فاضل، نشره في الدورية نفسها عام 1967، بالعدد الخامس.
أما الدكتور ابن عبدالله الأخضر الجزائري فقد كشف في مجلة الطليعة الأدبية العراقية - شباط فبراير 1979 - ان عبدالجبار محمود عندما نشر بحثاً في المجلة نفسها بعنوان أثر ألف ليلة وليلة في المسرح الأوروبي في عدد تشرين الأول أوكتوبر 1978، كان يقتبس حرفياً من مصادر ذكرها الدكتور الأخضر، دون أن يشير كاتب البحث الى صفحات تلك المصادر.
وفي العدد الرابع من المجلد السابع من مجلة المورد العراقية الفصلية وجد الدكتور عماد عبدالسلام من كلية التربية بجامعة بغداد أن السيد فاخر الرزاق المناع قد نشر بحثاً في مجلة المورد عن مؤلفات عبدالكريم الجيلي في عدد خريف 1978، كان الدكتور عماد عبدالسلام قد نشره حرفياً في مجلة الأفلام العراقية، في العدد السادس 1970.
أما بول شاؤول، المحرر الثقافي في مجلة المستقبل الأسبوعية فقد أجرى لقاء مع المستشرق الفرنسي جان فونتين مؤلف كتاب الموت والبعث عند توفيق الحكيم، وفي هذا اللقاء - العدد 109 - 24 آذار مارس 1979 - قال فونتين:
هناك سرقات في مسرحية أهل الكهف فقد أخذت من النظرة الى الخلف لإدوار بيلامي،، ومن الزمن الحلم لهنري رينيه لونورمان، وقد وجدت عند الحكيم جملاً مترجمة حرفياً عن هاتين المسرحيتين، بل لقد وجدت بعض المواقف منقولة، هذا الى جانب 19 عملاً مستوحى من أعمال غربية.
ونفس هذه الظواهر المرضية نجدها في مجال الفقه فقد رصد المتخصصون في الفقه المقارن جملة وقائع كان ضحاياها بعض العلماء المبدعين.
فمن ذلك ما وقع من ابن هارون وابن عبدالسلام في شرحيهما لمختصر ابن الحاجب فقد سرقا كلام ابن رشد ونسباه الى أنفسهما، وقد عابهما ابن الحباب على ذلك، فلم يستطيعا أن يردا عليه.
وهذا رجل اسمه علاء الدين علي بن خليل الطرابلسي الحنفي قاضي القدس المتوفى سنة 844 للهجرة، سرق تبصرة ابن فرحون المتوفى سنة 799 للهجرة، برمتها مع تغيير يسير في بعض العبارات القليلة ونسبها الى نفسه وسماها "معين الأحكام" ويظهر أن الذي جرَّأه على ذلك أن العهد قريب لم يسمح بانتشار التبصرة انتشاراً يحول دون هذه السرقة التي لا تغتفر لما فيها من جناية الكذب وانتحال ما للغير.
وإذا اطلعت على شرح الرملي لمنهاج النووي وشرحه لابن حجر الهيثمي وجدتهما متطابقين في العبارات إلا في النزر اليسير ومن المحال أن يكون هذا من توافق الخواطر، لكن من هو السارق ومن هو المسروق منه؟ العلم عند الله.
أما شرح شمس الدين بن قدامة لمتن المقنع فهو صورة طبق الأصل من المغني لعمه موفق الدين بن قدامة الذي شرح به مختصر الخرقي...
هذا غير السطو في ميدان الفنون كالموسيقى والرسم... مما لا يسع ذكره، وما زال النقاد يتحفوننا بعينات عديدة، وأرقام مذهلة، عن حجم اللصوصية التي يمارسها بعض مرضى حب الظهور تحت الأضواء المزيفة والتي ارتفعت وتيرتها الى حد السطو على أبحاث كاملة.
لست هنا بصدد معالجة هذه الظاهرة، أو الاكتفاء بسردها، والحكم عليها، فهو معلوم على أي حال بقدر ما يقلق انسحاب هذه الظاهرة، وانفلاشها في أوساط بعض رجال الدين!!! يأتي أحدهم ليعيد التدقيق في مسألة بحث فيها عالم من القرن السادس مستخدماً استدلاله في ذلك الوقت فيقوم هذا الشخص بتأييد بعض استدلالاته وابطال البعض الآخر وإخراج نفسها مع بعض الاختلاف". والمكتبة الإسلامية زاخرة بأمثال هذه المؤلفات التي عمادها فصل من هنا وباب من هناك بل كتاب من هنا وكتاب من هناك، هذا عدا التكرار الممل - ولا أقول الاختصار المخل لاحتياجه الى شيء من العلم - الذي لا ينتفع معه القارىء إلا بضياع وقته وكلال بصره إرضاء للصيَّع الضيَّع من الذين ألفوا وأنسوا الأحد من محلاه الأسلاف كأنهم الغريب الذي يبسط الكفين ابتغاء الصدقة لأنه لا يملك من ذاته شيئاً يتبلغ به فلا هم لهم سوى أن تزين أسمائهم الكتب حتى يشار اليهم بالبنان وينادى عليهم بين الأنام بالعالم العلامة والحسن الفهامة أستاذ البشر الى غيرها من الألفاظ الفارغة الخرقاء.
وأعود الى الرسالة الحاتمية، والتي افترض أن الحاتمي أراد منها تأسيس وترسيخ نقد نثري من نوع جديد، يرى الإبداع أعمق من إبراز تنوع الصياغات الفنية للمعنى الواحد، وهو الإبداع في المعنى نفسه، تلك الحيثية التي عمل النقد الأدبي الحديث على تقزيمها، وتهميشها، وهنا الفرادة في منتوج الحضارة الإسلامية. فإذا كانت المبادىء التي سار عليها الحاتمي، ونقاد الأدب العربي تدرج المصنفات التي تلوك معان محددة ضمن السرقة فبعض مصنفات التراث، وجل الكتابات المعاصرة سرقات، كتب تلد كتباً، ولا يصح عندها أن نسمي إبداعاً إلا هاتيك المصنفات التي تؤلف مفاصل كل علم الأمهات وما عداها يصدق فيه قول أبي حيان التوحيدي: الكلام على الكلام يدور على نفسه.
"طوفان السنة... إسماعيل يطفو صحراء من كتب تموت... أحلام إسماعيل جاثية وجبهته تراب ما كان إسماعيل إلا صوتاً يقاتل بعضه بعضاً وليس له فضاء".
ألا يكفينا هذا التل المهول أكوام كتب إذا نظرت اليها ألفيتها تكراراً لما كتبه السلف، وليس لسارقيها - شلت يداهم - إلا فضل اجترارها، إذ هم في غيبوبة عن رصد المعضلات العلمية والفكرية الحديثة والاتباع لا الإبداع نهجهم، حتى إذا وجهتهم بشنيع ما فعلوا بدأ يختفي الوجه السمح وتدافعت من أفواههم العبارات كأنها صخور منحدرة متهاوية كسيل جامح، أو كجلمود صخر حطه السيل من عالي التكبر والغرور.
ونجلس في نوادينا الثقافية إسلاميين وعلمانيين غضاباً، نعض على نواجذنا غيظاً، ان كان الإقبال على الكتاب في عالمنا العربي ضئيلاً، ولا نفتأ نتلوا على أنفسنا سورة اليأس التي لن يقوى على تفسيرها وفهمها إلا من تماهى بلحمه وعظمه مع هموم هذه الأمة البائس المكسال. وعاش قلق النهضة، واضطراب المستقبل.
وتتوج منظمة اليونيسكو الحفل بتقريرها الذي يفيد أن 3 في المئة أو 5 في المئة - لا أذكر - هي نسبة من يقرأ من العرب!!!
ربما تكون المشكلة في الكتاب لا في القارىء!!!
بل هو كذلك ونقول بصراحة أنه في كثير من المصنفات، يشبه المقبل على قراءتها كمن يقدم على طحن أطنان من العلقم ليفوز بحفنة من السكر، لأنها إن لم تكن خطابات تبجيلية فهي لا تطلعك إلا على ما سبق أن قرأته، وعرفته، وسواء أكانت هذه أو تلك، فهي لا تفيد القارىء ثقافة، خصوصاً مع غياب روح النقد!!!
وإذا لم تسرع الوزارات المختصة، والمنظمات الثقافية العربية، وخصوصاً منها المتعلقة بالجامعة العربية الى اتخاذ اجراءات تقنين وضبط في الطباعة والنشر كما العملة النقدية الى جانب السعي الى الدخول في عصر جديد للترجمة هادفة وواسعة النطاق، فإن الكتاب مآله الى الزوال، وبخاصة بعد تعدد تقنيات الاتصال المعرفي، والمعلوماتية، عندها تبقى الثقافة العربية ثقافة نخبة، ولن نفلح أبداً في جعلها ثقافة جماهيرية.
وأظن أن القارىء سبقني الى استنتاج السؤال التالي: إذا كانت وسائل الطباعة وغيرها من آليات التواصل المعرفي قد ساعدت على انفلاش ظاهرة السطو هذه، إذاً ما هي الأسباب الجوهرية التي تقف وراء حدوثها عدا اعوجاج النفوس؟
في هذا الصدد أعتقد أن التغيرات التي طرأت على مادة النقد الأدبي أثرت كثيراً في الانحطاط، وتدهور النثر، فبينما كان النقد قديماً يعنى بالموازنة، وتتبع السرقات، والعيوب، وفضحها، والاهتمام بقضية اللفظ والمعنى، والطبع والصنعة - غدا في العصر الحديث وقد غُيِّب عنه أكثر ما ذكرنا، وأهمها باب السرقات، التي كان من الممكن تعميمها لتشمل النثر، وصار غاية ما يرومه النقد الأدبي بمفهومه المعاصر هو تفسير العمل الأدبي، والناقد هنا أشبه بوسيط بين طرفين هما العمل الأدبي والقارىء، والناقد بثقافته المتنوعة، ودربته في تناول النصوص وتحليلها، ومعرفته الشاملة بثقافة وطبائع العصر الذي ينتمي اليه العمل الفني، أو الأديب المبدع، هو الذي يستطيع أن يدلنا على أوجه الجمال أو القصور، وعلى المعاني الخبيثة في العمل الفني، وعلى أسرار الإعجاب وتعليل التجاوب معه من حيث يشعر القارىء ببعض ذلك شعوراً غامضاً، فكان الناقد يقوم بدور المرشد.
وفوق ذلك نقول: إن أكثر أعمال النقد الأدبي الحديث تحليلات لا طائل تحتها لأنها توضيح للواضحات وهو - كما قالوا - من أعقد المشكلات.
وقد يظن أني شخصي جداً في بعض أحكامي فليكن... وحسبها أنها تثير إشكالية مهمة من إشكاليات سيسيولوجية المعرفة في العالم العربي، علنا نكتشف داء انحطاط خطابنا، وسوف نكتشف، بلا شك، أنه لم تضرب علينا الذلة والمسكنة إلا لأننا صرنا ممن قال الله تعالى فيهم: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم. آل عمران: 188.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.