كيف تسنى للحياة الوجود وأقدم آثارها المكتشفة تعود الى فترة كانت فيها ظروف البقاء على الأرض مستحيلة؟ كيف صمدت الحياة أمام ضربات ماحقة اقتلعت كتلاً من سطح الكرة الأرضية تعادل الجزر البريطانية في الحجم؟ وكيف لم تختنق الكائنات الحية وبخار حمم الصخور المتطايرة شفط جو الأرض؟ كيف حافظت على البقاء ومياه المحيطات تغلي وتتطاير في أتون حرارة تزيد على 3 آلاف درجة مئوية؟ وأي قوانين للحياة فرضت نفسها والحرارة اللاهبة تخترق سطح الأرض الى عمق يزيد على الكيلومتر؟ يحاول الاجابة عن هذه الأسئلة المحيرة كتاب "المعجزة الخامسة" لعالم الفيزياء بول ديفيز. ويناقش الكتاب الذي يصدر هذا الاسبوع عن دار نشر "بنجوين" في لندن احتمال مجيء الحياة من المريخ أو من كواكب اخرى. أو ربما من تحت الأرض. وتبدو الحياة وفق هذه النظريات ككرة تتقاذفها الكواكب. تاريخ الأرض أقدم دلائل الحياة التي عثر عليها العلماء في الصخور تعود الى ما يقرب من 4 بلايين عام. لكن الأرض تعرضت بعد ذلك على امتداد 200 مليون سنة الى ضربات نيازك صخرية جبارة يبلغ عرضها 100 كلم وتنطلق بسرعة 30 كلم في الثانية. ويرسم علماء الفلك صور مذهلة لتاريخ الأرض التي لم تكن والمنظومة الشمسية كلها سوى جزء من غيمة هائلة الحجم من غاز الهيدروجين. انهارت هذه الغيمة الجبارة وانطوت على نفسها وتكونت في قلبها فقاعة نارية متوهجة جبارة أصبحت الشمس، وتكاثفت حولها سحب الغاز والتراب مكوّنة الأرض وكواكب المنظومة الشمسية الاخرى. المواد التي تقاوم الذوبان، مثل الحديد والسليكون تجمّعت في كتل نشأت منها كواكب الداخل، عُطارد والزُهرة والأرض والمريخ. والمواد المتطايرة، كالماء والهيدروكربونات تحولت الى كرات لزجة أنتجت الكوكبين الغازيين العملاقين، المشتري وزُحل. وتبلور نثار الغبار والماء والجزيئات العضوية في كرات ثلجية ترابية تدور على هواها قرب التخوم الخارجية للمنظومة الشمسية. هذه الكرات هي النيازك التي التفت في حزام دوّار حول كوكب المشتري، وحزام نيازك آخر في الجانب الأقصى من المنظومة الشمسية ما وراء كوكب نبتون. تحميص الأرض خلال ذلك ضرب الأرض جسم سماوي في حجم المريخ واخترق أعماقها مكوناً لب الكرة الأرضية. وتجمعت المواد المتناثرة عن الارتطام العظيم مكوّنة القمر تابع الأرض. ويذكر بول ديفيز أن هذا الاصطدام الجائح حمّص الأرض حتى العظم ومحى كل أثر للمواد العضوية التي نشأت عن انهيار الغيمة الغازية العظمى. واستمرت الأرض تتلقى ضربات النيازك الجبارة المفلتة من حزامها على تخوم المنظومة الشمسية. والنيازك، كما يقول عالم الفلك الراحل كارل ساغان "واهبة الحياة ومبيدتها". فهي تحمل معها الماء والمواد العضوية التي تكون المادة الأولية للحياة، لكنها بالمقابل تبيد كائنات بكاملها، كما حدث للديناصورات. فكميات المياه التي نقلتها النيازك الى الأرض خلال تاريخها تملأ جميع المحيطات مرات عدة، والمواد التي جلبتها النيازك هي التى أنشأت جو الأرض قبل نحو 4 بلايين سنة. أعقبت ذلك 200 مليون سنة تعرضت الأرض خلالها الى سيل ماحق من النيازك والمذنبات مسحت كل أثر للحياة. والسؤال المحير كيف عاودت الحياة الظهور بعد ذلك؟ "الجراثيم المتفوقة" يعرض بول ديفز في كتابه "المعجزة الخامسة" نظريتين تفسران كيف ظهرت الحياة في تلك الظروف المستحيلة. تعتمد احدى النظريتين على الاكتشافات الجديدة المثيرة لحياة في باطن الأرض. فقد عُثر على كائنات مجهرية تعيش على عمق بضعة كيلومترات تحت سطح الأرض. هذه الكائنات التي يطلق عليها اسم "الجراثيم المتفوقة" السوبر super bugs قادرة على مقاومة ظروف حرارة وبرودة قصوى ترواح ما بين الصفر المطلق حتى أكثر من 120 درجة مئوية. وتصمد الجراثيم المتفوقة لضغوط ساحقة تراوح ما بين انعدام الضغط حتى مئات الدرجات من الضغط الجوي. ويواصل بعض هذه الكائنات الحية البقاء حتى في وسط حمضي يذيب المعادن. وتبلغ القدرة علي الحياة حداً مذهلا لدى كائنات تتكاثر في نفايات المفاعلات الذرية وتتغذى على البلوتونيوم المهلك. ويجهل العلم لحد الآن ما اذا كان هناك حدود للبقاء، لكن يُرجّح أن الكائنات الحية قادرة في حال تجميدها وتجفيفيها الى أدنى الدرجات البقاء حية ملايين السنوات. أسئلة محيرة هل نشأت الحياة عن هذه الكائنات التي مكثت في القشرة الساخنة للأرض ولم تظهرالى السطح إلاّ بعد نشوء ظروف ملائمة لها؟ هذا ما يرجحه بعض النظريات، لكن لم يعثر لحد الآن على أدلة تدعمها. ويبقى التفسير الآخر الذي يشير الى احتمال أن الحياة قدمت الى الأرض من الكواكب الاخرى. ويشير بول ديفز الى احتمال أن تكون الضربات التي تلقتها الأرض رفعت كميات هائلة من الصخور الى الفضاء. ولا يستبعد العلماء أن تكون هذه الصخور حملت معها آثار الحياة البدائية التي واصلت البقاء في الفضاء. ويرجح ديفز أن الكائنات البدائية كمنت داخل الصخور التي جمدتها وجففتها حاملة إياها في التيه الفضائي العظيم. ولا بد أن بعض هذه الصخور عادت للارتطام بالأرض وأعادت لها كائناتها الحية. ويُحتمل أن الصخور حملت الحياة الى كواكب اخرى في المنظومة الشمسية. والكوكب المرشح لهذا الاحتمال هو المريخ الذي دلت الاكتشافات الأخيرة على أن ظروفه في الماضي كانت ملائمة للحياة. وقد كشفت مركبة ماسح المريخ التي تدور حول الكوكب الآن سطحه المخدد عميقاً بآثار الأنهار والسيول والوديان المندثرة. وقد ظهر أن المريخ كان قبل أكثر من 3 بلايين سنة دافئاً ورطباً في حين كانت الأرض آنذاك محمّصة تماماً. ولعل الحياة التي ازدهرت على المريخ آنذاك عادت للانتقال الى الأرض محمولة على الكتل الصخرية التي تتقاذفها الكواكب في ما بينها. وقد تفسر نظرية قدوم بذور الحياة من المريخ الى الأرض لماذا ظهرت الحياة في فترة مبكرة لم تكون تتوفر لها سوى أصعب الظروف. ويشير بول ديفيز الى المفارقة ما بين المريخ الخالي من الحياة الآن والأرض التي أعاد زرعها بالحياة عامرة! ويتساءل ديفيز: هل يعني ذلك أننا من أهل المريخ؟ المؤلف: Paul Davies، عنوان الكتاب: The Fifth Miracle ، الناشر: Penguin