مشاريع تنموية ب14.7 مليار ريال في مكة    إطلاق المسار النقدي لتجربة البدر الثقافية    السعوديات إخلاص وتميُّز بخدمة الحجاج    وفاة الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    أكتوبر الأكثر إصدارا للتراخيص الاستثمارية    آل الشيخ يعزز التعاون مع البرلمانات العربية    خادم الحرمين الشريفين يرعى نهائي أغلى الكؤوس    كلاسيكو التحدي بين «الأصفرين».. والبطل على أعتاب «التاريخية»    «الشورى» يستأنف جلساته بمناقشة أداء القطاعات وتحدياتها    المجفل سفيراً لخادم الحرمين لدى سورية    عبيدالله سالم الخضوري.. 16 عاماً ملكاً على الكونغو    مملكة الإنسانية وصحة الشعوب    5 من أمراض المخ ترتبط بتغير المناخ    جامعة المؤسس: الزي السعودي إلزامي على الطلاب    وزارة الإعلام تحتفي بطلاب وطالبات أكاديمية طويق ومدارس مسك الفائزين في معرض آيتكس 2024    فريق طبي بمستشفى عسير يُنقذ حياة أربعيني تعرّض لطلق ناري في الرقبة    أنت بحاجة إلى ميزانية    بيان التسمم    رابطة اللاعبين تزور نادي العروبة    أخضر الشاطئية يتأهل لربع نهائي البطولة العربية    حتى يبدع الحكم السعودي    ضمن فعاليات تقويم جدة بسوبر دوم.. غونتر يتوج بلقب" ملك الحلبة".. و" ناي جاكس" ملكة السيدات    ريال مدريد يودع الساحر الألماني    ولادة ثلاثة وعول في منطقة مشروع قمم السودة    وجهة الابتكار    إدارة تعليم عنيزة تدشن مبادرة التسجيل في النقل المدرسي    الإطاحة بثلاثة وافدين يروجون حملات حج وهمية    الأمن المدرسي    العمودي والجنيد يحتفلون بناصر    الزهراني يحتفل بزواج إبنيه محمد و معاذ    الاحتلال يواصل قصف أحياء رفح    أمير الرياض يرعى الاحتفاء بالذكرى ال 43 لتأسيس مجلس التعاون الخليجي    الغربان تحصي نعيقها    أجيال المملكة والتفوق صنوان    كي تكتب.. عليك أن تجرِّب    تكريم الفائزين في مسابقة «فيصل بن مشعل لحفظ القرآن الكريم»    المكسيك تسجل حرارة قياسية    وصول أولى رحلات مبادرة طريق مكة من المغرب    حلقات تحفيظ جامع الشعلان تكرم 73حافظا    "سناب شات" تضيف عدسات الواقع المعزز لكروم    ضريح في جزيرة يابانية لتكريم القطط    12 ألف حاج تلقوا خدمات صحية في المدينة المنورة    عليهم مراجعة الطبيب المشرف على حالتهم.. «روشتة» لحماية المسنين من المشاكل الصحية في الحج    اكتشاف دبابير تحول الفيروسات إلى أسلحة بيولوجية    التألق والتميز السعودي في الزراعة !    مرونة سوق العمل السعودي!    أسرتا السليمان والزعابي تتلقيان التعازي في فقيدهما    بيت الاتحاد يحتاج «ناظر»    أتعمية أم خجل.. يا «متنبي» ؟    الشغف    شكراً «نزاهة»    تعيين د. المجفل سفيراً لدى سورية    تخفيف مشقة الحج عن كبار السن    مشرفو الحملات الإندونيسيون: طاقات بشرية وفنية سعودية لراحة الحجاج    سعود بن بندر يطلع على خدمات «تنموي سلطان بن عبدالعزيز»    سمو أمير تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة الثامنة عشرة لطلاب وطالبات جامعة تبوك    أكد حرص القيادة على راحة الحجاج.. أمير الشمالية يتفقّد الخدمات في« جديدة عرعر»    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج دورة الضباط الجامعيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاطع من كتاب باتريك سيل... رياض الصلح أنجز مع بشارة الخوري الاستقلال والميثاق واغتيل بعد سنوات في عمّان (3)
نشر في الحياة يوم 04 - 03 - 2010

كتاب باتريك سيل الجديد «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» يتخذ من أحد أبرز زعماء الاستقلال وواضعي الميثاق الوطني عام 1943، نموذجاً للاستقلاليين العرب الذين عاشوا مراحل الانتقال الصعبة من العهد العثماني الى عهود الانتداب والاستعمار، وصولاً الى المشكلات التكوينية للدول العربية الحديثة المترافقة مع مأساة فلسطين.
زعيم عروبي ثم لبناني - سوري ثم لبناني، لكن حياته التي انتهت بالاغتيال جسدت حجم المشكلات التي اهتم بها ولم تقعده، مشكلات محلية جداً، كأن يصالح عائلات وزعامات في منطقة محدودة من لبنان، لكنها تتسع الى الاقليم كله اهتماماً بمشكلة فلسطين منذ نذرها الأولى وبالصراع الدولي على المنطقة.
تنشر الكتاب الدار العربية للعلوم - ناشرون في بيروت، التي سمحت ل «الحياة» بنشر مقاطع منه. وتقام حفلة لإطلاقه دعت اليها الوزيرة السابقة ليلى رياض الصلح في فندق «فور سيزونز» في بيروت الخميس 4 آذار (مارس) الجاري السادسة مساء.
نشرنا مقاطع في حلقتين وهنا حلقة ثالثة أخيرة:
 شعر رياض الصلح في ربيع سنة 1943، قبل بضعة شهور من عيد ميلاده الخمسين، أن سنوات الجهد توشك أن تُثمر، وأن الوقت حان للسعي إلى السلطة عبر الانتخابات اللبنانية. كانت لحظة سعادة غامرة له، على رغم أنه لم يستطع تبديد شيء من القلق من أن تحطّم العراقيل الفرنسية طموحه. فهو لا يزال يذكر محاولته الأولى للوصول إلى البرلمان سنة 1937، عندما اضطر إلى الانسحاب المذل من الانتخابات صبيحة يوم الانتخابات، عندما اتضح أن الفرنسيين سيتلاعبون بالأصوات لإسقاطه (...).
وتساءل عما إذا كان يمكن إجراء انتخابات حُرّة حقاً، أم أن العادات الفرنسية القائمة على الرشوة والترهيب وتزوير الأصوات أصبحت عميقة الجذور بحيث تجعل أي تغيير حقيقي أمراً بعيد الاحتمال. في الفترة التي تسبق «الانتخابات» اللبنانية السابقة، كان من المعتاد إخضاع قطاع الخدمة المدنية بأكمله لإرهاب حقيقي. كان كل المسؤولين المشتبه بأنهم متعاطفون مع المعارضة، أو بفتور مشاعرهم تجاه الحكومة، يُصرفون بقسوة ويستبدل بهم عملاء انتخابيون للفريق الحاكم (...).
مع تطوّر الأوضاع، أصبح كثير من الأمور يتوقّف على تطوّر تفكير الجنرال الفرنسي كاترو، إضافة إلى التعليمات التي يتلقّاها من اللجنة الوطنية الفرنسية في الجزائر، ومن ديغول نفسه. في كانون الأول (ديسمبر) 1942، بدا كاترو ميّالاً إلى تقديم تنازلات للوطنيين. فقد أفاد الجنرال البريطاني سبيرز، على سبيل المثال، أن كاترو حرص على إظهار المودّة في اجتماع قصير مع رياض الصلح وبشارة الخوري. سألهما: «ماذا تريدان»؟ فأجاب رياض بابتسامة عريضة «كل شيء». ابتسم كاترو في المقابل وأشار بحركة من يده أنه لن تكون هناك صعوبة في ذلك. (...)
لكن رياض عاد خائب الأمل بعد مقابلة طويلة مع كاترو في أوائل آذار/مارس 1943، وهي المرّة الثانية التي يجري معه مباحثات حقيقية (...).
لكن توقّع العودة القريبة للحياة الدستورية أثار حماسة شديدة في كل أنحاء لبنان، وارتفاعاً حاداً في النشاط السياسي. فبدأت الأحزاب السياسية تحشد قواها تحضيراً للتحدّيات المقبلة والحصول على الدعم الفرنسي والبريطاني. وسرعان ما احتدمت الحملة الانتخابية في المحافظات الخمس، حيث تنافس المرشّحون للوصول إلى المناصب.
ولتهدئة مشاعر المسلمين الغاضبة (نتيجة مراسم أصدرها الرئيس أيوب تابت واعتبروها مجحفة)، اقترح كاترو قبول الصيغة التي طرحها رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا، وتقوم على اعتماد نسبة أربعة إلى خمسة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس، أي 29 مقعداً للمسيحيين و24 مقعداً للمسلمين. ووعد أيضاً بإجراء إحصاء عامّ بعد الانتخابات. وعندما لم يحظَ هذا الطرح بموافقة عامّة، تدخّل الجنرال سبيرز للتحكيم في المسألة. فنجحت صيغته التي تقوم على نسبة خمسة إلى ستة بين المسيحيين والمسلمين، أي 30 مقعداً للمسيحيين و25 مقعداً للمسلمين (السنّة والشيعة والدروز). وظلّت هذه الصيغة نافذة إلى أن عدّل الدستور اللبناني بعد اتفاق الطائف سنة 1989 (...).
صمّم رياض على دخول البرلمان، لكن أين يترشّح؟ (...)
وفي أوائل آب/أغسطس 1943، قرّر الترشّح في جنوب لبنان. فقد راقب الحملة الانتخابية هناك عن قُرب أسابيع عدة، ولاحظ أنه لم تقرّر أي من الشخصيات السنّية ذات المكانة الوطنية الترشّح هناك. فجاء ذلك لمصلحته. فللشيعة في الجنوب ستّة مقاعد تعكس وزنهم الديموغرافي، بينما يوجد مقعد واحد لكلّ من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والموارنة والسنَّة. وكان على رياض الفوز بذلك المقعد السنّي الذي شغله الأمير خالد شهاب، من حاصبيا، بعد انتخابات سنة 1937، وهو من أوثق الداعمين المسلمين لفرنسا في إنشاء لبنان الكبير (...).
وقرّر رياض، بدهائه السياسي المتميز، أن مصلحته تقتضي عدم الانضمام إلى لائحة عادل عسيران المعارِضة للفرنسيين في العلن. وحرصاً منه على طمأنة الفرنسيين، فضّل التحالف مع الوجيه الشيعي القوي أحمد الأسعد، الذي يثق به الفرنسيون. لكن كيف يمكن تحقيق هذا التحالف الذي يبدو خلافاً للطبيعة؟
مع ذلك أعلن عن لائحة رياض الصلح وأحمد الأسعد في الأسبوع الأول من آب/أغسطس بعد كثير من المحادثات التمهيدية. ووسط دهشة عامة، انضمّ عادل عسيران نفسه إلى تلك اللائحة مع ثلاثة من مؤيّديه، كاظم الخليل ورشيد بيضون وعلي عبدالله، اقتناعاً منهم في الظاهر بأن لا جدوى من محاربة تحالف أحمد الأسعد ورياض الصلح القوي. كما فضّل أحمد الأسعد بدوره هذا الائتلاف على التحالف مع نجيب عسيران ويوسف الزين.
قلق المستشار الفرنسي برونو من هذا الاصطفاف غير المتوقّع، وحاول يائساً تشكيل لائحة مقابِلة يرأسها يوسف الزين، لكنها أتت فاقدة المضمون والصدقية (...).
فازت اللائحة الموحّدة بأكثر من ثلاثة أرباع الأصوات (...).
وأبلى القادة المسلمون بلاء حسناً في الأماكن الأخرى من البلاد. فانتُخب عبدالله اليافي وصائب سلام في بيروت، وعبدالحميد كرامي في الشمال. وانتُخب الوجيه الشيعي صبري حمادة في البقاع والزعيم الدرزي كمال جنبلاط في جبل لبنان. وانضمّت إليهم شخصيات بارزة من الطوائف الأخرى، مثل الكاثوليكي سليم تقلا، والموارنة الثلاثة البارزين بشارة الخوري وإميل إدّه وكميل شمعون في جبل لبنان؛ والمصرفي الكاثوليكي هنري فرعون في البقاع؛ والأرثوذكسي حبيب أبي شهلا، والماروني ألفرد نقاش والبروتستانتي أيوب ثابت في بيروت.
لكن هذا الدخول الظافر لرياض الصلح والمسلمين الآخرين إلى البرلمان للمرة الأولى غيّر ميزان القوى السياسي والطائفي في السياسة اللبنانية إلى الأبد (...).
ثنائي الاستقلال والميثاق
مهدّت اللقاءات الأولية المعقّدة الطريق للقاء ثنائي تاريخي بين رياض الصلح والشيخ بشارة الخوري في 19 أيلول (سبتمبر) في منزل صديق مشترك في بلدة عاليه الجبلية الباردة، (حيث انتظر رضا وابنه رياض الصلح في الماضي محاكمتهما على نشاطاتهما المناهضة لتركيا). لا يوجد أي سجل عن مضمون اللقاء. فلم يكتب رياض شيئاً عنه، وورد ذكره بإيجاز في مذكّرات بشارة الخوري. وتبيّن في ما بعد أنهما توصّلا إلى اتفاق غير مكتوب يقضي بأن يعيّن بشارة الخوري، إذا انتُخب رئيساً، رياض الصلح رئيساً للوزراء. كما اتفقا على تقاسم السلطة بغية وضع برنامج سياسي متين يسعيان من خلاله إلى الاستقلال عن فرنسا (...).
وهكذا وضع المبدأ العريض لاستقلال لبنان على قاعدة العيش المشترَك بين المسيحيين والمسلمين. وتجسّد التفاهم بين الرجلَيْن بعد بضعة أيام في أوّل بيان يدلي به رياض الصلح أمام البرلمان بعد تولّيه منصب رئيس الوزراء، وهو برنامج الحكومة الذي عُرف في ما بعد بالميثاق الوطني. غير أن الغموض يلفّ كيفية عقد الاتفاق بين بشارة ورياض، وما تبادلاه من أحاديث في اللقاء الحاسم.
لا شك في أن التسوية السياسية بين الموارنة والمسلمين السنَّة، متجسّدة في الميثاق الوطني، هي من صنع هذين الرجلين. فقد تمكّن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء معاً من تحقيق استقلال لبنان، ووضع حدٍّ لقمع النظام الاستعماري المستحكِم، بعد نضال مرير مع فرنسا. وقد تحقّقت شراكتهما معاً بفضل معطياتهما الاستثنائية. أدرك رياض هواجس المسيحيين وتعاطف شخصياً معهم منذ نعومة أظفاره، بينما تمتّع بشارة الخوري باستقلال فكري ليدرك أنه بحاجة إلى البحث عن الدعم خارج مجتمعه الماروني الضيق. فسمح له ذلك بإدراك فائدة تحالفه مع رياض الصلح، الزعيم السنّي الذي اكتسب نفوذاً عظيماً لدى المسلمين في لبنان والبلدان العربية. شكّل الميثاق نمطاً جديداً للعيش المشترك، ارتقت فيه الزعامة الإسلامية السنّية المدينية إلى موقع المشاركة الكاملة في السلطة مع الموارنة، الذين سيطروا في السابق على الساحة السياسية. فأدخل ذلك تحوّلاً جذرياً على تركيبة السلطة التي وضعها الفرنسيون (...).
منح تأييد رياض الصلح هذا «الحلّ اللبناني» ثقلاً سياسياً للتعاون المتنامي بين التجّار والمموّلين والوسطاء السياسيين المسيحيين والمسلمين. ففي النهاية، لم ينبثق الميثاق الوطني من فراغ، ولم يكن مجرّد تسوية أعدَّها رجلان طموحان فحسب. بل مثّل التقارب التدريجي على مدى سنوات بين عدد من الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، محلياً وعالمياً، وأهمّها تنامي إدراك النخب المسلمة والمسيحية في لبنان أن القواسم المشتركة بينهم تفوق كثيراً ما كانوا يرغبون في افتراضه. فهم ينتمون إلى العالم نفسه، على الصعيد الاجتماعي على الأقل.
لقد بدأوا يقتربون بعضهم من بعض منذ الثلاثينات، عندما أدركوا تدريجاً عدم وجود تناقض حقيقي بين ارتباطات السنَّة التجارية مع العالم العربي وارتباطات المسيحيين مع شركائهم الغربيين. بل يمكن جمع هاتين المجموعتين من العلاقات معاً لتحقيق المزيد من المنافع للطبقة الوسطى المشتركة. وسيتوقّف ازدهارها في المستقبل على نجاح تطوّر بيروت إلى مركزٍ تجاري ومصرفيّ، في موقع استراتيجي بين الأسواق العربية والغربية. لقد عبّر الميثاق الوطني، إلى حدٍّ كبير، عن هذه المصالح المالية المشترَكة المغرية (...).
في 21 أيلول، انتخب مجلس النواب اللبناني الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهورية. وعند أداء القسَم، أشار بوضوح إلى السياسات التي يعتزم اتّباعها. وأعرب عن تقديره مبدأ التضامن العربي معلناً نيّته تدشين عهد جديد من الحرية والسيادة الوطنية. وفي اليوم التالي، عيّن رياض الصلح رئيساً للوزراء (...).
وحظي البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح في 7 تشرين الأول (اكتوبر) بترحيب البرلمان والبلد في شكل عام، وكرس سمعته انه مهندس الاستقلال اللبناني. كان خطاباً طويلاً ومكتوباً بعناية، وأعطاه رياض نبرة جدية بإعلانه منذ البداية أن «العهد الذي دخله لبنان اليوم، عهد دقيق خطير، لم يستقبل مثله من قبل». فشكّل ذلك تنبيهاً الى ان المعركة مع الفرنسيين توشك ان تبدأ. وقال ان الانتخابات جعلت الشعب اللبناني المصدر الحقيقي للسلطة للمرة الأولى منذ عشرين عاماً، وبالتالي مهدت الطريق للاستقلال الحقيقي (...).
كرر رياض لفظة «الاستقلال» ثلاثين مرة تقريباً في خطابه. لم يطلب الاستقلال ان ينتظر موافقة فرنسا عليه، أو أن تمنحه القوى الكبرى، بل أجمل الخطوات المحددة لتحقيقه وهذا ما ميز الخطاب.
كان مجلس النواب متلهفاً لسماع ما سيقوله رياض في شأن علاقة لبنان بالعالم العربي، لأنها طالما كانت مصدراً رئيساً للخلاف بين المسلمين والمسيحيين، ولم يخب ظنه. أعلن رياض ان موقع لبنان الجغرافي «ولغة قومه وثقافته وتاريخه وظروفه الاقتصادية تجعله يضع علاقاته بالدول العربية الشقيقة في طليعة اهتمامه». لكنه اضاف: «وستُقبل الحكومة على إقامة هذه العلاقات على أسس متينة تكفل احترام الدول العربية لاستقلال لبنان وسيادته التامة وسلامة حدوده الحاضرة، فلبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب».
استُقبلت العبارة الأخيرة بالكثير من الترحيب في المجلس لأنها تجمل التسوية التاريخية بين المسلمين والمسيحيين وتقع في صلب الميثاق الوطني (...).
استشاط الفرنسيون غضباً من الخطاب. وبعد مرور خمسة أيام على إلقائه، اضطر جان هللو، المندوب العام، ومستشاراه الرئيسان، شاتنيو وبوغنير، الى تناول العشاء مع بشارة الخوري ورياض الصلح. لم يكن غضب الفرنسيين قد هدأ بعد ولم يكن العشاء ودياً. وعندما أثار بشارة مسألة التنازلات التي يتوقع من الفرنسيين تقديمها بغية تحقيق الاستقلال، رد هللو – بناء على أوامر ديغول التي نقلها شاتنيو العائد حديثاً من الجزائر – انه لا يمكن منح أي شيء الى ان ينتهي الانتداب بتوقيع معاهدة.
احتج رياض على الفور بأن الفرنسيين أنفسهم أعلنوا استقلال لبنان سنة 1941، قبل ورود أي حديث عن معاهدة لإنهاء الانتداب. لم يستطع هِللو إنكار الأمر، لكنه أصرّ على عدم انتقال السلطة خلال الحرب (...).
ازدادت العلاقات الفرنسية - اللبنانية سوءاً عندما كتب هللو، في 22 تشرين الأول (اكتوبر) رسالة الى بشارة الخوري تنص صراحة على ان فرنسا لن توافق على التعديلات الدستورية التي سيجريها رياض الصلح، لأن «التعهد الدولي» لا يمكن ان يُلغى بقرار من جانب واحد! وأكد ان الانتداب لا يزال قائماً قانونياً لأن عصبة الأمم لم تُعفِ فرنسا منه. وهدد بحدوث «عواقب وخيمة» إذا نفّذت التعديلات المقترحة. رد رياض على هذا التهديد غير اللائق بحزم بالطلب من ايف شاتنيو، نائب هللو، الحصول على صلاحية من رؤسائه لسحب الرسالة. وفي الوقت نفسه سلّمه رسالة رسمية تحتوي على ثلاثة مطالب محددة:
1- تحويل المندوبية العامة الى بعثة ديبلوماسية «تتوافق مع استقلال لبنان».
2- إناطة ممارسة كل مظاهر السيادة على الأراضي اللبنانية بالسلطات الدستورية اللبنانية فحسب.
3- تولي الحكومة اللبنانية إدارة كل المصالح والهيئات التي تديرها المندوبية العامة حالياً باسم لبنان. واتفاق سورية ولبنان على إدارة عائدات المصالح المشتركة في ما بينهما (...).
ظهر يوم الجمعة في 5 تشرين الثاني (نوفمبر)، دُعي الصحافيون في بيروت الى السفارة الفرنسية حيث سلّمهم م. غولمييه، رئيس الدائرة الصحافية في المندوبية، بياناً شديد اللهجة صادراً عن اللجنة الفرنسية في الجزائر. وقد نص البيان على انه لا يمكن إجراء تعديلات على الدستور من دون موافقة السلطات الفرنسية الصريحة ما دام الانتداب قائماً. وسلّم المسيو دافيد، من المندوبية في لبنان، الحكومة نسخة من البيان نفسه.
دعا رياض الوزراء الى الاجتماع على الفور. فقرروا ان إدخال تعديلات على الدستور يقع ضمن صلاحية الحكومة بموجب المادة 76 من الدستور نفسه. ثم وزّعت التعديلات المقترحة على النواب ظهر السبت في 6 تشرين الثاني، وحدد موعد جلسة مجلس النواب بعد ظهر الاثنين في 8 تشرين الثاني. غير ان المسيو دافيد نقل صباح الاثنين رسالة شفهية الى بشارة الخوري من هللو في الجزائر يطلب منه بجدية تأجيل النظر في التعديلات حتى عودته الى بيروت.
لكن مجلس النواب اللبناني اجتمع عند الثالثة والنصف بعد الظهر وأقرّ التعديلات الدستورية بإجماع ثمانية وأربعين نائباً (امتنع نائبان فقط عن التصويت وانسحب اثنان قبل إجراء التصويت). استُقبل رياض الصلح بحفاوة شديدة، وجرت الجلسة بانتظام تام، وأبقت الشرطة اللبنانية الحشود خارج البرلمان تحت السيطرة (...).
قبل فجر الخميس 11 تشرين الثاني، داهمت قوة مشتركة من البحرية الفرنسية والقوات السنغالية الاستعمارية وعملاء من الأمن العام منازل كل من رئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري، ورئيس وزرائه رياض الصلح، ووزيري الداخلية كميل شمعون والخارجية سليم تقلا واعتقلتهم. واعتُقل الوزير عادل عسيران في عاليه في وقت لاحق من ذلك اليوم. في الساعة 8 صباحاً، بثّت إذاعة بيروت خطاباً لهللو أعلن فيه ان الوقت قد حان لوضع حد «لنظام رياض الصلح الديكتاتوري» (...).
(وبعد إضراب شعبي مديد واتصالات عربية ودولية)، بثت ليل يوم الأحد في 21 تشرين الثاني، هيئة الإذاعة البريطانية خبر قرب الإفراج عن المعتقلين، فعمّ الفرح كل أنحاء لبنان. وبدأت حشود ضخمة، تقدر بعشرات الآلاف، تتحرك في المدينة. وكان قسم كبير منهم مسلحين. وتواصل إطلاق النار في الهواء بكثافة. واستمرت التظاهرات الواسعة حتى اليوم التالي. حملت الجماهير النواب على الأكتاف وتوجهت الى البرلمان، فمُزّق العلم اللبناني القديم ورُفع العلم الجديد. وتكرر المشهد نفسه عند السراي وبلدية بيروت. لزم الجنود الفرنسيون والسنغاليون ثكناتهم، فلم تقع أي أحداث عنيفة. واقتصرت أعمال التحدّي على تمزيق الأعلام الفرنسية والدَوس عليها.
صباح الاثنين 22 تشرين الثاني، توافد الناس الى منازل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء الآخرين المعتقلين في انتظار وصولهم من قلعة راشيا حيث اعتقلوا. أفرج عن السجناء نحو الساعة الحادية عشرة صباحاً، وتوجهوا الى بيروت برفقة المندوب الفرنسي المسيو دافيد، وقائد الدرك اللبناني العقيد نوفل. وفي الثانية بعد الظهر، استقل بشارة الخوري ورياض الصلح، بطلا الاستقلال، السيارة جنباً الى جنب وجالا في شوارع بيروت وسط الجماهير المبتهجة. أراد المسيو دافيد أن يجلس الى جانب الرئيس في الرحلة من راشيا – على أمل استعادة بعض الاعتبار لمكانة فرنسا – لكن الرئيس حرص على صدّه، وأبلغه ان الغوغاء سيعدمونه بالتأكيد إذا شاهدوهما يدخلان بيروت معاً(...).
كانت لأحداث تشرين الثاني 1943 المثيرة أهمية كبرى في مستقبل لبنان. فقد وضعته على طريق الاستقلال الحقيقي، أو على الأقل الاستقلال الذي يستطيع ان يتوقع بلد صغير وضعيف الحصول عليه، وبالنظر الى موقعه الاستراتيجي ومواطن ضعفه الداخلية الكثيرة، وهي ما جعلت جيرانه والقوى الكبرى تعتبره ساحة تتقاتل فيها(...).
ولكن، يبدو ان انقلاب حسني الزعيم في دمشق في آذار (مارس) 1949 حفّز انطون سعادة (زعيم الحزب السوري القومي) على التفكير في الاستيلاء على السلطة في لبنان، ربما كخطوة أولى نحو الاتحاد مع سورية، وكان الكثير من السياسيين المعارضين في لبنان يسعون تقليدياً الى الحصول على دعم دمشق ضد حكومتهم، فسلك سعادة الآن الطريق الخاطئ نفسه. استقبله الديكتاتور السوري، وبحث معه خطط الانقلاب في لبنان. وقد أمل كل منهما في الاستفادة من الآخر(...).
وكانت الحكومة اللبنانية ترددت مدة ثلاثة أسابيع – من 30 آذار الى 23 نيسان (إبريل) - قبل الاعتراف بحكومة حسني الزعيم. فقد غضب بشارة الخوري ورياض الصلح من تجرؤ هذا الديكتاتور العسكري على سجن الرئيس القوتلي. وها هو الآن يستقبل أعضاء في المعارضة اللبنانية، ويبدي عداء واضحاً للدولة اللبنانية(...).
وما لبثت ان تصاعدت أزمة (في لبنان)، وأصبحت أخطر بكثير من مجرد تبادل لإطلاق النار بين حركتين شبه عسكريتين متنافستين (في لبنان) (الكتائب والقوميون). شن القوميون سلسلة من الهجمات المسلحة في وقت واحد، فاعتُبر ذلك محاولة لإسقاط الحكومة(...). بدأت العملية بسلسلة من الهجمات غير المنسقة على مراكز الدرك اللبناني قرب الحدود السورية وفي الجبال قرب بيروت (...).
وتجمّع أكثر من مئة حزبي في دمشق ونقلوا بالحافلات الى منطقة تبعد نحو عشرة كيلومترات من الحدود اللبنانية، حيث كان سعادة ومساعده العسكري، عساف كرم، في انتظارهم. ألقى فيهم سعادة خطاباً حماسياً، ووزّع عليهم الأسلحة والذخيرة. توجهت مجموعة الى راشيا، وأخرى الى مشغرة (...).
حوصرت (تحركات) القوميين في نهاية الأمر، واستسلمت للجيش(...) وبحلول 7 تموز (يوليو) كان قد قبض على نحو 900 عضو من حزب أنطون سعادة ومتعاطف معه (...).
في دمشق، دعا حسني الزعيم سعادة الى القصر الرئاسي، وبعدما استُقبل بلباقة، اعتُقل ثم نُقل تحت الحراسة الى الحدود اللبنانية في ليل 6 – 7 تموز (يوليو). وهناك سلّم الى الأمير فريد شهاب، المدير العام للأمن العام – «شرط» أن يقتل في أثناء رحلته الى بيروت. كانت شروط الزعيم تقضي بأن يُقتل سعادة عند «محاولته الهرب» (...).
في الصباح، اجتمعت الحكومة اللبنانية في جلسة استثنائية وقررت، مخطئة من دون شك، محاكمة سعادة بموجب حالة الطوارئ التي أعلنت في 14 أيار (مايو) 1948، عند بداية حرب فلسطين (...).
عند الساعة الثامنة مساءً في 7 تموز، أصدرت المحكمة العسكرية حكم الإعدام على سعادة بموجب المادة 79 من قانون القضاء العسكري. أرسل الملف إلى لجنة العفو التي أكّدت الحكم. بعد سماع دفاع المُدان، وقبل اتخاذ قرار في شأن مصير سعادة، دعا الرئيس بشارة الخوري إلى اجتماع حضره رياض الصلح والأمير فريد شهاب، إضافة إلى حبيب أبي شهلا وغبريال المر، وهما مسؤولان بارزان من الطائفة الأرثوذكسية نفسها التي ينتمي إليها سعادة. وفقاً لملاحظة دوّنها الأمير فريد شهاب، قال رياض الصلح إنه لا يحب الإعدام. ولاذ الرئيس الخوري بالصمت، لكن أبي شهلا والمر أيّدا إعدامه. لا شك في أنهما اعتبرا أن سعادة يشكّل خطراً على موقعهما المسيطر في طائفتهما. ظلّ هذا الجانب من ظروف إعدام سعادة مجهولاً لمدة تزيد على نصف قرن، ولم يكشف عنه إلا بعد نشر أوراق الأمير فريد شهاب سنة 2006(...).
في 9 آذار 1950، كان رياض الصلح هدفاً لمحاولة اغتيال في بيروت. فعندما خرج من سيارته في شارع فردان في وقت متأخر من بعد الظهر لحضور حفل استقبال أقامته عائلة الغلاييني على شرفه، أطلق رجل مختبئ خلف شجرة نخيل عليه ثلاث طلقات من مسافة قريبة. تقدّم رياض بشجاعة نحو المعتدي محاولاً القبض عليه، لكنه هرب مطلقاً بضع طلقات إضافية. أصيب ثلاثة أطفال في الحادث، إضافة إلى رجل كان يقف على مسافة قريبة. توفي اثنان من الأطفال في الطريق إلى المستشفى. اخترقت رصاصة كمّ سترة رياض من دون أن تجرحه (...).
رحلة رياض الأخيرة
في أيار 1951، بعد مرور ثلاثة أشهر على استقالة رياض الصلح من رئاسة الحكومة، زار ملك الأردن عبدالله بيروت، وأبدى رغبته في الاجتماع به. لكن رياض قرّر عدم الاجتماع ، لظهور دليل (في مصر) على تواطؤ الملك مع إسرائيل، وسلبية الفيلق العربي في حرب 1948. ولتجنّب عبدالله، غادر رياض بيروت وتوجّه إلى قرية تمرة في جنوب لبنان. وبعد أسبوع أو اثنين، أرسل الملك إلى رياض رسالة تدعوه إلى عمّان (...)
يوم الاثنين، 16 تموز، تناول رياض الصلح ومرافقوه الغداء في نادي عمان بدعوة من صاحبه اللبناني الأصل، قبل أن يبدأ رحلة العودة إلى بيروت. كان السفير الفرنسي في الأردن، دومرغاي Dumargay، جالساً إلى جوار رياض. وقد أرسل إلى باريس تقريراً ذكر فيه «أنه بدا منشغل البال طوال الغداء. وأبلغني أنه نادم لأنه لم يغادر عمان في الصباح بدلاً من قبول دعوة الغداء». بعد انتهاء المأدبة، قام رياض بزيارة أخيرة إلى القصر لوداع الملك، ثم عاد إلى فندق فيلادلفيا لاصطحاب رفاقه قبل التوجّه إلى المطار. كان يريد العودة إلى بيروت من طريق البر، لكن الملك أصرّ على أن يذهب جواً، واستأجر طائرة خاصة لنقله.
غادر رياض غرفته بعد ظهر ذلك اليوم ونزل إلى بهو الفندق، حيث كان الأردنيون ينتظرون لوداعه. فجأة، تقدّم رجل إلى الأمام ليصافحه. نزع رياض نظارته الشمسية، وتراجع ماداً إليه يده. وبعدما ذهب الرجل سأل: «هل تعرفونه»؟ لم يتمكّن أحد من تحديد هويته. انطلق الوفد بعد ذلك نحو المطار في سيارتين. جلس رياض في المقعد الخلفي للسيارة الأولى وإلى جانبه الدكتور البربير. وجلس باقر بك، الضابط المساعد من القصر الملكي، على المقعد الأمامي إلى جانب السائق. لم تكن هناك أي مرافقة أخرى. واستقلّ الصحافيان، شقير ومارون، السيارة الثانية مع حارس رياض الشخصي عبدالعزيز العرب.
عند الساعة 3:45 بعد الظهر تقريباً، مع بلوغ السيارتين تقاطع طرق قرب محطة السكة الحديد في عمان، انطلقت سيارة هدسون تسير بسرعة فائقة من طريق جانبي، فتجاوزت السيارة الثانية، واقتربت من السيارة الأولى. أثار ذلك على الفور شكوك عبدالعزيز العرب، فأمر السائق باللحاق بها. لكن قبل أن يستطيع التدخّل، تمكّنت سيارة الهدسون من مجاراة السيارة الأولى على الطريق المفتوح. شاهد شقير ورفاقه يداً تحمل مسدساً وهي تمتدّ خارج نافذة الهدسون وتصوَّب نحو سيارة رياض الصلح. وسُمع دوي ست طلقات. توقّفت سيارة رياض، بينما ابتعدت سيارة الهدسون بسرعة كبيرة. قفز شقير ومارون من سيارتهما لرؤية رياض والدكتور البربير، بينما انطلق عبدالعزيز العرب وباقر بك وراء سيارة الهدسون. لم تكن جراح الدكتور البربير خطرة، لكن رياض أصيب في قلبه. لا بد من أنه استدار لمواجهة قاتله. نقل الرجلان على عجل إلى المستشفى الإيطالي في عمان، لكن رياض فارق الحياة قبل وصولهما إلى هناك، ولم يكن يتجاوز السابعة والخمسين (...).
عمّمت الشرطة في ما بعد أسماء المهاجمين الثلاثة (وكانوا) أعضاء في الحزب القومي (...)
ووفقاً لعضو سابق في الحزب، فإن الأمر باغتيال رياض الصلح جاء مباشرة من جورج عبد المسيح، وهو من أتباع أنطون سعادة المتعصبين، وقد تعهّد بالانتقام له عند تولّيه رئاسة الحزب إثر إعدامه. ويُعتقد على نطاق واسع أن القتلة ما كانوا ليُقدموا على فعلتهم من دون أوامر شخصية منه. وسعى كبار أعضاء الحزب في ما بعد لكبح عبد المسيح، وأبلغوه أن الحزب لا يستطيع تحمل المزيد من الجرائم. لكن ذلك - إذا استطردنا في الرواية - لم يردع عبد المسيح عن إصدار الأوامر باغتيال العقيد عدنان المالكي سنة 1955.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.