أمير نجران يطلع على سير العمل في قطاعات الأمن العام    مجلس شؤون الأسرة يختتم أعمال ملتقى التكامل مع القطاع غير الربحي 2025م    أرامكو تنجح بضخ إنتاج معمل غاز الجافورة بسعة 450 مليون قدم    توني بلير يعقد اجتماعات سرية في تل أبيب لإدارة اليوم التالي    أزمة السودان.. زوايا منسيّة    قمة المنامة وترسيخ مستقبل اقتصادي موحّد    تفوق كاسح.. تاريخ مواجهات الأخضر أمام الأفارقة في المونديال    السكتيوي: سنفوز ب«الروح»    جامعة القصيم تحصد جائزة العمل التطوعي    تفعيل الجواز «المجدد» شرط للسفر بالهوية لدول الخليج    «الكشافة» تشارك في احتفالية اليوم العالمي للإعاقة بالرياض    أيام قرطاج السينمائية تكشف عن تفاصيل الدورة 36    ثلاث مدن سعودية تنضم لشبكة اليونسكو العالمية لمدن التعلّم    «التواصل الحضاري» يشارك في مؤتمر الفلسفة    لا تلوموني في هواها    في الجولة الثالثة لكأس العرب 2025.. الأخضر يلاقي المغرب للحفاظ على الصدارة    تأكيداً لما نشرنه "البلاد".. ميندي أهلاوي لمدة موسمين    فيلم«العملاق» يجسد حياة نسيم حميد    ارتفاع سوق الأسهم    938 ملياراً تمويلات عقارية    نورس يصطدم بوجه مذيعة أثناء التصوير    اشتراط تفعيل الجواز للسفر بالهوية الوطنية    مطرنا بفضل الله ورحمته    آل الشيخ يطلق النسخة الثانية من مبادرة «ليلة العمر».. رسم بداية جديدة لشباب الوطن    أكد تصميمه على استعادة السيادة.. سلام يتهم إسرائيل ب«حرب استنزاف»    أكد أن السلام ممكن مع الفلسطينيين.. نتنياهو: المرحلة الثانية من خطة ترمب على الأبواب    جمعية غير ربحية للمصنعين.. تعزيز القدرات والخبرات السعودية في صناعة الطيران    العزف على سيمفونية حياتك    «محاربة الصحراء».. فيلم سعودي عالمي    أي سر فيك؟    السمنة تسرع تراكم علامات الزهايمر    جامعة الطائف تكشف بدراسة علمية عن مؤشرات فسيولوجية جديدة للمها العربي في بيئته الطبيعية    29.2 % ارتفاع الاستهلاك التجاري للكهرباء    حين يهدأ الداخل تتسع الحياة    Bitcoin تذبذب وتقلبات حادة    محاولة انقلاب بنين تصاعد واضطرابات في غرب إفريقيا    تدابير الله كلها خير    فلسطين وسوريا إلى ربع نهائي كأس العرب .. ومغادرة قطر وتونس    تناول الطعام ببطء يقلل التوتر    فيتامين سي يحمي الرئتين    4 سيناريوهات تنتظر صلاح مع ليفربول بعد تصريحاته المثيرة للجدل    وزير الخارجية يبحث التعاون الإنساني مع رئيسة الصليب الأحمر    تأسيس جمعية مصنعي الطائرات غير الربحية    الشؤون الإسلامية بجازان تنفّذ برنامجًا توعويًا لمنسوبي المساجد بمنطقة جازان ومحافظاتها    تركي آل الشيخ يطلق النسخة الثانية من مبادرة "ليلة العمر"    الفارسي: الفراغ عدوّك الأول.. والعمل مدرسة الحياة    مدينة الملك سعود الطبية تنجح في إنقاذ مريض توقف قلبه 25 دقيقة    افتتاح متحف البحر الأحمر في جدة التاريخية    إنه عمل غير صالح    نائب أمير الشرقية يطلع على أعمال فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    أمير منطقة تبوك يتابع الحالة المطرية التي تشهدها المنطقة    الصين تطلق قمرا صناعيا يعمل بالفحم    تتم عبر تصريح «نسك» للرجال والنساء.. تحديد زيارة الروضة الشريفة ب«مرة» سنوياً    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. "التخصصات الصحية" تحتفي ب 12,591 خريجًا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله.. ويعلن انضمام أمانة الرياض لعضوية المنظمة العالمية "ISOCARP"    رئيس البرلمان المقدوني يستقبل إمام المسجد الحرام الدكتور المعيقلي    أمير منطقة جازان يؤدى واجب العزاء والمواساة لإبراهيم بن صالح هملان أحد أفراد الحماية (الأمن) في وفاة شقيقته    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرديات ريف السودان في «اللحن المفقود»
نشر في الحياة يوم 29 - 08 - 2015

كلما سنحت لي فرصة قراءة نص من نصوص الرواية السودانية الفيت أن لهذه الرواية روحاً سرديةً مبثوثةً بلطف في مفاصلها، تنبئ بها اللغة بخفر، وتمثل في كل إصدار جديد جوهر تميزه، بل قل وعنوان بذخه الاستعاري. وهو زعم تؤكده جودة أعمال الروائيين السودانيين المقيمين في الخارج الذين أمكن رواياتهم أن تصل إلى القارئ العربي. وعلى تفاوت حجم الأدبية في راهن الكتابة السردية السودانية التي تشهد «انفجاراً روائياً» على قول الناقد مجذوب عيدروس فإن المنجز الروائي ظل ينبض بإيقاع جسده الثقافي السوداني بحمولاته التاريخية والاجتماعية والسياسية والجغرافية، وهو إيقاع لا ألفي له شبيهاً في ما يكتب الآن من نصوص عربية وإن حضرت منها في نغماته أصداء الانتماء إلى الجيل الفني إضافة إلى الاشتراك في ثقافة اللغة.
انشطار الوعي
لا أشك في أن قارئ رواية «اللحن المفقود» للكاتب أسامة رقيعة الصادرة عن دار فضاءات - عمان 2015 وأجد فيها هذه الروح الحكائية بعد ما نفخ منها الكاتب في صلصال بيئته الريفية ما به هيج رغبة كل مفردة من مفرداتها في سرد حكايتها سرداً وئيداً وئيداً، فيه تخفف ظاهر من تعقيدات التجريب الروائي وثقل مقولاته النظرية، وفيه حنين إلى منظومة القيم الأخلاقية التي راحت تتآكل في مجتمع القرية بسبب تضارب المصالح الشخصية لأفراده بعد أن كانت تمثل السنن الذي يزع الناس بعضهم عن بعض -على حد عبارة ابن خلدون- ويحقق لهم وحدة ضميرهم الجمعي، وفي هذا السرد أيضاً يحضر تنافر لعواطف البعض من هؤلاء وتضافر لمصائر البعض الآخر منهم.
ما الذي طرأ على واقع مجتمع القرية وحرك الأحداث فيه إذاً؟ إنه تغير سرديات الناس، تغير عنوانه غياب اللحن الناظم لجريان أفعالهم، وانشطار وعيهم بما حولهم ما ساهم في تنامي تعثرهم الأخلاقي وتبعثرهم الاجتماعي. وهو تعثر وهو تبعثر اجتهدت الرواية في تقديم صورة لهما منذ افتتاحيتها، إذ يحلم راويها في هناءة ليله الصيفي بانشقاق القمر إلى نصفين متباعدين، ويذهب في تأويل ذلك الحلم إلى أن الانشقاق ليس إلا علامةً من علامات موته الذي يحيل ضمناً على موت براءة بيئته الاجتماعية، فيقول: «وبقيت ناقص الثبات أوزع نظراتي إلى نصفي القمر في وجل ثم أحاسب نفسي وأنا في تلك البدايات الأولى من عمري... كيف لي أن أقابل ربي وقد جاءت الساعة وانتهت هذه الحياة الحلوة؟». هي بالفعل حياة حلوة تحتضنها قرية «ترقد في وداعة إلى جوار النيل، تستلهم منه الجود والعذوبة» وتستلهم منه «العكر أحياناً». وإن من العكر ما تكتظ به الأحلام وينبئ تأويله بما سيحدث في واقع قرية الراوي من فساد في سجايا أهلها وإفساد فيها.
البطل المضيع
تتخذ الرواية من شخصية «عبد القيوم» منوالاً بطولياً تفسر به تأزم منظومة القيم الأخلاقية داخل القرية، إذ تقدمه للقارئ في إهاب «رجل عريض البنية وافر الوقار تلمح في قسماته وضاءة حبه للناس»، ثم هي تلقي به في تجربة حياتية تتعاور روحه فيها طاقتان: صورة الأولى حب كامن فيه، يحفزه باستمرار على التفاني في خدمة الآخرين، وصورة الثانية تنكر له من قبل مجموعته الاجتماعية. لكأنما الرواية قد استحضرت بيت «العرجي» الذي يقول في صدره «أضاعوني وأي فتىً أضاعوا» فاختارت هي أيضاً أن تجرب إضاعة بطلها عبد القيوم ولو إلى حين، وأن لا تكمل صفة البطولة فيه إلا بعد إخضاعه لمحنة أن يكون ضحيةً: ضحية بطولته وكريم شمائله. ذلك أنه بقدر ما سعى عبد القيوم إلى حب الناس وخدمتهم سعى متخيل هؤلاء إلى تجريده من فضائله عليهم عبر تصديق تورطه في قضية قتل، فالقرية لم تصدق جهد آمنة –زوجة عبد القيوم- في تبرئته، «بل لم تشفع لها حتى الذبائح والكرامات التي تعجلتها، فعقول القرية قد تحجرت، وصورة الخبر قد ارتسمت في وجدانهم نقشاً محفوراً بإزميل موروث». ويبدو أن خيار الرواية تجريم بطلها أمر ذو وجاهة دلالية ستتكشف للقارئ في الصفحات الأخيرة منها. وقد احتاجت الرواية في تسريد تلك القضية إلى حبكة ذات ملمح بوليسي، وتفصيلها تنبه الناس إلى وجود جثة شاب ملقاة بأحد أطراف قريتهم حاملةً أثر طعنة عميقة في الظهر. وقد تبين لهم أن القتيل هو «عثمان ود نايل» الذي حضر حفل زفاف «ضراع الليث ود حامد» ب«أمونة بنت سعد» وهي «جميلة القرية التي يعرفها الجميع، واشتهرت بنظرتها البريئة التي تسافر في أكباد الشباب كحلم موجع». وقد عرف القتيل بكونه يعشق هذه الفتاة ورغب في الزواج بها ولم يفلح، وهو ما دفعه إلى أن يشاكس العريس يوم زفافه، حيث قضم شيئاً من قطعة لحم ثم أعطاه بقيتها قائلاً باستهزاء: «بعض الناس بنخلي ليها البواقي والفضلات» وأتبع ذلك بضحكة موبوءة بالخبث. وهو أمر استرعى انتباه عبد القيوم الذي أنهى حينها ذبح خرفان العرس، فراح والسكين الحادة في يده يؤنب هذا الشاب بشدة في محاولة منه لثنيه عن مشاكسة العريس. وقد اتكأ الناس على ذلك المشهد ليتهموا عبد القيوم بالجريمة، وأبلغوا عنه الشرطة التي اقتاده أفرادها إلى السجن، ولم تفلح جهود الراوي في تكليف محامٍ للدفاع عن المتهم الذي اعترف تحت ضغط الشرطة بأنه القاتل.
لغة بلا ثياب
لئن أظهرت الرواية انتصارها للحق والخير بإعلانها براءة عبد القيوم، بعد أن تبين أن أخت العريس «ليمونة» هي التي قتلت «عثمان ود نايل» انتقاماً منها لكرامة أخيها، فإنها لم تخفِ يأس الراوي من عودة قريته إلى براءتها الأولى التي هي لحنها المفقود، ويتجلى ذلك في قوله: «أريد واقعاً، أريد حاضراً، يمثل أمامي ويشبعني، واقعاً مليئاً بالمحبة والصدق والإيمان، واقعاً يترنم على لحن الأحلام ثم يمنحنا ما نشد به عضد الخير بيننا». وهو قول نستشف منه خوف الراوي، ومن ورائه خوف الكاتب، من إمكان استشراء العداوة بين سكان القرية. ونحن واجدون ما يبرر هذا الخوف في دلالة الأسماء الواردة بالرواية، وذلك من جهة أن اسم عبدالقيوم مخالف في تكوينه لتكوين باقي أسماء شخصياتها، حيث لا يتوافر على طاقة تعين المسمى تعيين التخصيص على غرار «عثمان ود نايل» و «ضراع الليث ود حامد» و «أمونة بنت سعد»، فالقيوم اسم من أسماء الله الحسنى، وهذا ما يجعل كل الناس عباداً لله القيوم، ومن ثمة فإن اسم «عبد القيوم» يحيل على كل فرد من مجتمع القرية، وكأن الرواية تشي بأن محنة بطلها قابلة لأن تتكرر في الواقع لدى بقية عباد الله متى غلبوا نزوعهم إلى الشر على توقهم إلى الخير والمحبة والتسامح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.