من بداية الطفرة التنموية الأولى التي شهدتها البلاد قبل أربعة عقود تقريباً صرفت الدولة على مشاريع التنمية مئات البلايين من الريالات شملت كل قطاعات الدولة ، وباستثناء القطاع المالي بعد طفرة الأسهم وانبثاق السوق المالية بسلبياتها وإيجابياتها ؛ لم نسمع عن تأسيس بيت خبرة متخصص في أي قطاع من القطاعات. النقل بكل فروعه البري والبحري والجوي ، يعتمد على الاستشارات والخبرات الخارجية .. وأحسب أن القطاعات الأخرى لا تختلف عن ذلك. والتنمية مهما كان حجمها .. إذا لم يكن من بين أهدافها وضع أسس للاعتماد على القدرات المحلية فستظل قاصرة وستظل الاعتمادية على الغير ، ومن هذا المنظور فإن المتمعن فيما حققته مشاريع التنمية العملاقة التي أُنفق عليها بسخاء أغفلت أو أخفقت في مساعدة القطاع الخاص في تكوين بيوت خبرة محلية في المجالات الفنية تُقلِّص الاعتماد على الخبرات الأجنبية ، وتستوعب أعداداً كبيرة من أبناء البلد .. الأقرب لهموم الوطن والأكثر استعداداً لتلمس حاجات المواطن ، وتوطين الخبرات الفنية المطلوبة كجزء لا يستهان به من أهداف التنمية المستدامة. هناك بعض المكاتب الاستشارية التي تعتمد كلياً على خبرات أجنبية .. ولا تشجع أبناء البلد على الالتحاق بها .. والجهات المختصة لا تلزمها بنظام السعودة ، ومع تطور التقنية أصبحت تقوم بالدراسات والمخططات خارج المملكة وتأتي بها جاهزة ، وبعد انتهاء المشروع تصبح الخبرة ملكًا لها .. وهذا يُشكِّل خللا جسيما على مستقبل المشروع وإمكانية تطويره في المستقبل عندما تحتاج الجهة المعنية إلى ذلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر ، لدينا شركات في مجال الإنشاءات لو نظرنا إلى أجهزتها الفنية لوجدناها بالكامل من العناصر الأجنبية. وآمل أن لا يظن البعض بأنني ضد الاستعانة بالخبرات من جنسيات أخرى ؛ لأننا سنظل بحاجة للاستعانة بخبرات من الخارج والاستفادة من تجارب الغير .. ولكن إلى متى؟! البداية -كما هو معلوم- تحتاج إلى دعم من الإدارات التي لديها مشاريع كبيرة بتخصيص نسبة بسيطة من مشاريع الاستشارات لديها للمكاتب المحلية ، وتشترط على المكاتب الأجنبية التي يستعان بها ؛ التعاون مع تلك المكاتب لتستفيد من خبراتها. لقد كانت فكرة مشاريع التوازن الاقتصادي رائدة في توجهها ؛ لنقل التقنية والمهارات الفنية عن طريق تضمين بنود العقود الكبيرة إنفاق جزء من تكلفة المشاريع العملاقة -التي يتم التعاقد عليها من قبل الدولة- على تأسيس بنية تحتية لمشاريع في نفس مجال التعاقد ، وتدريب فنيين محليين ليتولوا الإدارة والصيانة والتسويق، وغير ذلك من احتياجات المشروع .. وكم كنت ولا زلت أتمنى أن يشمل ذلك التوجه تشجيع ودعم تأسيس مكاتب استشارية محلية تقوم بالدراسات .. وتشرف على تنفيذ المشاريع .. تستعين بها الإدارات الحكومية والقطاع الخاص .. بدلاً من الاستمرار في التعاقد مع بيوت خبرة أجنبية الاستفادة منها محصورة في المشروع الذي أتت من أجله .. وفي بعض الحالات تستمر في الحصول على مشاريع أخرى ولا تعطي فرصة لمكاتب الاستشارات المحلية كما ينبغي. والجهات التي أعدت الخطط الخمسية لم تُركِّز بشكل فعلي على هذا الجانب كجزء من الخطة ، حيث لا يكتمل المشروع إلا بوجوده كعنصر من عناصر التنمية المستدامة. والمطلب هنا يقع في مجال القطاع الخاص .. ولكنه بحاجة لدعم مادي ومعنوي .. ويعتمد نجاحه على المقدرة على المنافسة .. وحتى يتحقق شيء من ذلك .. فهو يحتاج إلى تشجيع وإلزام المكاتب الأجنبية العاملة في المملكة ؛ وكذلك الشركات المحلية والأجنبية بإعطاء الأفضلية لبيوت الخبرة المحلية كجزء أساسي من توجهات مشاريع التنمية المستدامة .. والله من وراء القصد.