بعد فترة وجيزة تقاس بالأسابيع سيتم تقاعد طائرات نقل الركاب البوينج 747 الشهيرة بالجامبو من الخدمة في الخطوط الجوية العربية السعودية. وهنا لابد لنا من وقفة تأمل في الطائرة التي غيرت تاريخ عالم النقل الجوي في وطننا بل وفي العالم بأكمله. بدأت هذه الطائرة الرائعة حياتها بالفشل. وتحديدا فقد دخلت شركة بوينج في منافسة شرسة ضد شركتي «لوكهيد» و«دوجلاس» لتوفير طائرة نقل عملاقة لسلاح الطيران الأمريكي في منتصف الستينات الميلادية. وفازت شركة «لوكهيد» وخسرت بوينج العقد الحربي، ولكنها نجحت في تطوير الطائرة للاستخدام المدني. والدليل على ذلك هو أنها باعت حوالى 1519 طائرة على مدى ست وأربعين سنة بالرغم أن سعر أحدث طراز قد وصل إلى ما يفوق المليار ريال. وكان ولا يزال هذا النجاح بسبب هندستها الرائعة. ومن تلك الروائع الهندسية لتصميم الطائرة كانت القبة المميزة في مقدمتها. وسر هذه القبة هو أن التصميم بدأ بتخيل نهاية عمر الطائرة كمن يتخيل شكل زوجته في الكبر فينظر في حماته... وتحديدا فقد رأى المهندسون أن الطائرات التجارية تنهي عمرها بالعمل في نقل البضائع فصمموا الطائرة العملاقة بتصميم إمكانية وضع باب ضخم جدا في مقدمتها «لتبلع» البضائع بيسر ووضعوا مقصورة القيادة فوق ذلك الباب الذي صمم ليفتح إلى أعلى. وكانت الجامبو متميزة في اسمها، وشكلها، وحجمها، وحركتها على الأرض وفي الجو... فحتى لو لم تكن من هواة الطيران كان من السهل تمييز شكلها من بعد. ولكنها دخلت التاريخ من خلال اقتصاديات تشغيلها المميزة... لو وضعت في يد ناقل جوي «شاطر» واستطاع أن يملأها بالركاب فستصبح أداة تجارية رابحة. وأما لو كانت فارغة فستكون أشبه بالفيل الأبيض الطائر الذي يحرق النقود بسرعة عجيبة. وعلى سيرة الحرق فكانت تستخدم حوالى أربعة ليترات من الوقود في كل ثانية طيران تقريبا. ولكن اقتصاديات التشغيل أدت إلى انخفاض تكاليف النقل الجوي للعالم بشكل عام. في عصر ما قبل الجامبو كان السفر جوا للطبقات الغنية من البشر بشكل خاص. وبالنسبة لوضعنا في المملكة فقد كانت الخطوط أكبر مشغل لهذه الطائرة في الشرق الأوسط. وتميزت بأنها شغلت جميع الطرازات المختلفة من هذه الطائرة. وتحديدا فقد شغلت البوينج 747 من طراز 100 و200 و300 و400 و«إس بي» و«داش 8». وأعتقد أننا من الشركات الفريدة التي كونت خبرة في جميع هذه الطرازات المختلفة منذ منتصف السبعينات إلى اليوم. ومن الصدف العجيبة أن الحرب الأهلية في لبنان الشقيق ساهمت في دخول الجامبو لأسطول السعودية: في منتصف السبعينات الميلادية عند اندلاع الحرب الأهلية في لبنان استأجرت الخطوط من طيران الشرق الأوسط اللبنانية طائرتين جامبو بأسعار مغرية. ووجدت الخطوط أن هذه الطائرة كانت متفوقة اقتصاديا وتشغيليا على أحدث ما كان في الأسطول آنذاك، وكانت طائرة «اللوكهيد ترايستار»... يعني جاءت تطل فغلبت الكل. أمنية وقفت اليوم أمام طائرة جامبو «قرمبع» على أرض المطار. وبالرغم من عمرها الكبير، كانت لا تزال محتفظة بتألقها برأسها المرفوع... وحجمها العملاق، وتأهبها للعمل. وتأملت في روائعها الهندسية وفي تاريخها الحافل بالإخلاص في النقل... تخيلت الملايين من الركاب الذين نقلتهم عبر السنوات ليشرفونا لأداء فريضة الحج أو لأداء العمرة بتكاليف زهيدة نسبيا. أتمنى أن نتذكر أن النقل الجوي في المملكة كان ولا يزال بوابة تقنية مميزة، وأن لا ننسى أن الأساس هو البشر المخلصون وراء التشغيل. شكرا لكل من قام بقيادة وصيانة وتشغيل هذه الطائرة الجميلة. وفقكم الله وهو من وراء القصد.