الكلمات ليست محايدة كما نتصوّر، ولا بريئة كما تبدو في ظاهرها، بعض الكلمات تحمل في جوفها تاريخًا من الشعور الجمعي، وتختزن طبقات من المعنى تتجاوز القاموس إلى الذاكرة، ومن الدلالة اللغوية إلى الأثر النفسي والاجتماعي، من بين هذه الكلمات، تقف كلمة «أبشر» (...)
مع تتابع الأحداث وتسارع الضوء وضمور ساعات التأمل.. يطل الشعر برأسه من بين أنقاض اليومي لا بوصفه سيّد المشهد، بل شاهده الأخير، لم يعد الشعر ذلك الكائن الذي امتلك زمن إرادته ووعيه، حين كان الشاعر وزير رؤياه، وحارس معناه، وقائداً لوعيه الجمعي، بل أضحى (...)
لا أعرف حقًا هل تختار القصائدُ زمنَها، أم أن الزمن هو من يفتح لها بابًا سريًا لتتخلّق فيه، كثيرٌ من النصوص، بل حتى الأبيات المفردة، تبدو كأنها تنتقي لحظتها المخصوصة كي تُولد، ثم تمضي في الوجود بقدرٍ من الدهشة يجعل شاعرها نفسه في ورطةٍ مع التكرار؛ (...)
ليس غريبًا أن يعود الجدل -بعد عقدين من الزمان- ليمسك بأطراف رواية بنات الرياض للطبيبة رجاء الصائغ كما لو أنها لم تُكتب أمس، وكأن الزمن لم يَسْتَدِر دورته الكاملة بعد؛ ذلك أن بعض الأعمال لا تعيش في زمنها فقط، بل تظلّ تضيء المناطق المعتمة في وعينا (...)
في الوقت الذي لا نزال فيه ندور - بوعي مُرتبك أحيانًا - حول محيط تاريخنا، لم نمدّ بعد أصابع الدهشة إلى العمق الذي ينتظر أن نلمسه؛ ذلك العمق المزدحمُ برحيل القبائل، وبصدى خطوات الأجداد، وبالوجوه التي حفرتها الشمسُ ونسيتها الرواية، لا نعرف حقًّا متى (...)
الماضي.. ذلك الظلّ الذي يمدّ يده من عمق الذاكرة ليعيد ترتيب أرواحنا كما يشاء، جعلناه دائمًا مرجعًا للقيم والمبادئ الأولى، وبالتالي حرصنا على أن نستعيره تربيةً ومثالًا لكل ما ظننّا أنه الخير المطلق، فنعود إليه كلّما اختنق الحاضر بحداثته، نلوذُ به، (...)
لم تنشغل الأرض يومًا، بكلّ ما دار فوقها من حروبٍ ومصالحٍ وتحوّلاتٍ، كما انشغلت بكرة القدم، هذه اللعبة الصغيرة التي تدور بين قدمين، كرةٌ لا تعرف اللغة لكن تتكلّمها جميع الألسن، تمرّر سحرها وخديعتها بأناقةٍ مدهشة، تُبهر وتُضلّل في الوقت ذاته، وتجمع (...)
منذ أن نطق العربيّ أوّل بيت شعر له، لم يكن حينها يكتب الشعر ليتباهى ببلاغته وفصاحة لسانه ومهارته اللغوية، بل ليوثّق ما لا تُوثّقه السيوف، ولا تدركه الروايات، فالشعر في جذره الأوّل ليس فناً للزينة، بل آلية بقاء، ووسيلة نجاةٍ من الفناء، كأنّ القصيدة (...)
الشعرُ في جوهره العميق ليس قولًا جميلاً ولا حرفةً لفظيةً تُنَظَّمُ كما تُنَظَّمُ القصائد لجوائز دورية، هو لحظةُ وعيٍ متوهّجة، ينفلت فيها الوجودُ من عقال اللغة ليعبّر عن نفسه عبرها، كينونةٌ تتجلّى في الكلمة، كما يتجلّى الضوء في قطرة ماء، ولهذا ضلّ (...)
القصيدة لا تُولد من لحظةٍ عابرة، بل من سرٍّ قديمٍ ظلّ يتربّص بالزمن حتى يكتمل نُضجه في صمت الوجود، هكذا أراها بعد أكثر من ثلاثين عامًا برفقتها، قارئًا وشاعرًا، فالكلماتُ التي تخلَق في ساعتها، تختار زمنها كما تختار الأرواحُ موطنها الأول، تأتي حين (...)
من المدهش أن يظلّ التاريخ العربي يُتلقّى في الغالب على هيئة حكاية، وكأنّ السرد في ثقافتنا كان دائمًا الوسيط الأسبق للفهم والتأويل، فقبل أن نعرف الوثيقة أو المنهج النقدي، كانت الذاكرة الشفوية هي المؤرخ الأول، والراوي هو الحافظ للزمن، وهذا ما يجعل (...)
الشمسُ تعرفني الصباحيّ الذي
ترك الحكاية للصباح.. ونام عن ليل الظنون
أكثر من عقد ونصف مضى من عمري آخيتُ فيه الصباح، بعد أن قضيت عمرًا ساهرًا ليله.. فلا يجيئني حينها إلا كفقّاعة ضوء تنفجر في عينيّ لتدميَ الصحو فيهما..!
كنتُ حينها أدّعي أنني من قبيلة (...)
منذ أن عرف الإنسان معنى الانتماء، كان الوطن القصيدة الأولى التي تسكن وجدانه قبل أن يسكن البيوت والمدن، فالوطن ليس مجرد جغرافيا أو حدود مرسومة على الخرائط، بل هو ذاكرة ممتدة في الدماء، وأغنية لا تتوقف على الشفاه، ولأن العربي ابن اللغة التي تستطيع أن (...)
في المساء يعود صغاري
وقد كبروا كي يعودوا إليَّ مساءً
ليلقونني البدوي القديم الذي يشعل النار في ظله
كي يعيش طويلًا على ذمة الذكريات..
وقرض السنين
يحيّونني متعبينَ
ويستأذنون لكي يصعدوا نومهم هانئين!
ينادونني بالكبير.. الذي يتجاوز عن قلبه
ويطيل صلاة (...)
في إحدى الأمسيات الشعرية الخاصة.. وبعد انتهاء الأمسية تداخل أحد الحضور ممن أحسنوا بي الظن بقصيدة ترحيبية لا تخلو من عبارات المجاملة والإخوانيات كعادة كل قصائد المناسبات، والطريف في الأمر أنه ضمنها بعض التفاصيل الشخصية التي فوجئت من إلمامه بها.. وحين (...)
التاريخ في جوهره أوراق ثقيلة صامتة، لكنه حين يعبر إلى الشاشة، يتحول إلى دمٍ يسيل في العروق، وإلى وجوهٍ تحدّق بنا من قلب العتمة، فمن تحت وهج الضوء، يولد الماضي من جديد، لا كما كان بل كما أرادت العدسة أن تراه، وكما أراد الخيال أن يصوغه، فالسينما لا (...)
حين نتأمل التجربة الشعرية لمحمد الثبيتي، ندرك أننا أمام شاعر لم يكتب القصيدة ليحاكي الآخرين، بل ليعيد رسم ملامح الهوية الشعرية السعودية في زمن التحولات، فقد استطاع أن يمنح القصيدة السعودية وجهها الخاص، مستمدًا مادته الأولى من المكان، ومنفتحًا في (...)
صباحاتنا العربية على اختلاف جغرافياتها وطبائع ناسها، تكاد تلتقي عند نغمة واحدة؛ نغمة تُفتَح بها النوافذ على ضوء النهار، ويُسكب معها الفنجان الأول من القهوة، وتُستقبل بها ساعات العمل والدراسة واللقاءات الأولى.. إنه صوت فيروز هذه الظاهرة التي امتدت (...)
لم يكن أبو الطيب المتنبي مجرّد شاعر تفيض قريحته بالحكم وتلتهب أبياته بالكبرياء، بل كان نبيّ رؤيا، يتجاوز الشعر كفنٍ بياني إلى الشعر كقدرٍ ووعي، كان يرى نفسه أكبر من الزمان، وأوسع من المكان، وأقوى من الجسد، ومن هنا تحديداً لم يكن يكتب لزمنه، بل لزمنٍ (...)
الرواية التاريخية عمل أدبي يستند على وقائع أو شخصيات أو فترات زمنية من الماضي، يجد فيها الروائي الفنان بأدواته مادة أولية يعيد تشكيلها ضمن بنية سردية تخضع لمقتضيات الفن الروائي وتقنياته، وهي بذلك تتجاوز التوثيق أو إعادة السرد الأكاديمي، لتكون نوعا (...)
يُعد تحويل الأعمال الروائية إلى أفلام سينمائية أحد أبرز أشكال التداخل بين الفنون، حيث يلتقي الأدب بالسينما في تجربة غالبًا ما تثير جدلاً نقديًا وجماهيريًا على حدّ سواء، فبين صفحات الرواية وسيناريو الفيلم مساحة من الإبداع، لكنها كذلك مساحة محفوفة (...)
منذ أن كان العربي يشقّ الفيافي على صهوة ناقته، ويتخذ من الصوت جسرًا إلى الحنين، والصدى شرفة أخرى للبوح، نشأ الشعر في ثوبه الأول حداء، لم يكن نصًا مكتوبًا بقدر ما كان رجع صدى لقلبٍ يمرِّر الوقت شجنًا في بيداء خالية إلا من حنينه وذكريات الطلول حوله، (...)
في عالمٍ يضجّ بالصراعات، ويئنّ تحت وطأة الحروب، والانقسامات، والأزمات البيئية والاقتصادية والوجودية، يبدو أن العقلانية وحدها لم تعد كافية لتهدئة هذا الضجيج، وفي هذا السياق، يبرز الشعر بوصفه وسيلة وجدانية تتجاوز البراغماتية، وتنفذ إلى عمق النفس (...)
منذ بداياته الأولى، ارتبط الشعر العربي بالفضاء الصحراوي ارتباطًا عضويًا، لا مجرد علاقة بين شكل أدبي وبيئة جغرافية، فالصحراء لم تكن فقط خلفية مكانية تدور فيها الأحداث الشعرية، بل كانت روحًا تسري في بناء القصيدة وتُشكّل خصائصها الإيقاعية واللغوية (...)