فهد ابراهيم الدغيثر * الوطن السعودية مع الكارثة الأليمة التي حلت بمدينتنا الجميلة الحالمة جدة وما تمخض عنها من مبادرات رائعة من أعمال تطوعية بواسطة أبنائنا وبناتنا، حق للمرء أن يعيد النظر في تقييمه لشباب المملكة بل وتقديم الاعتذار لهم وطلب العفو منهم. العمل التطوعي الرائع الذي تم تنظيمه عبر موقع "فيس بوك" بواسطة هؤلاء الشبان والشابات ثم الانتقال إلى التنفيذ في ساحات العمل والتطبيق بالطريقة التي شاهدناها جميعاً لا يمكن إلا أن يبعث على الطمأنينة اليوم وعلى الأمل الجميل مستقبلاً بقدرات هؤلاء الأفذاذ. الذي يحز في النفس حقيقة هو تمادينا نحن الآباء والمربين والقائمين في ممارسة الشكوك بهؤلاء الشباب ووضعهم طيلة العقدين الأخيرين في خانات سوء الظن وبالتالي التصرف معهم بطرق لا يمكن لنا حتى الاعتذار عنها. طرق اتسمت بالإقصاء والمنع والنبذ والشك بالسلوكيات وكأننا نتبرأ منهم لجرم أقدموا عليه. لاشك لدي بأن لهذه الإجراءات آثار سلبية كبيرة ومستقبلية لا نعلم حقاً مدى تبعاتها. غير أن العمل التطوعي الذي قام به هؤلاء اليوم في المنطقة المنكوبة بجدة يبعث على الكثير من الآمال الجميلة. السؤال إذا كيف حكمنا وتوصلنا إلى النتائج النهائية التي أفضت بإقصاء الشباب والتضييق عليهم ومنع الكثيرين منهم من دخول الأماكن العامة وإجبارهم على الاختفاء في أماكن نائية في الاستراحات والطرقات أو حتى السفر إلى الخارج؟ إنها مأساة بحق. تأملوا ما جاء على لسان المتطوع الشاب عبدالله حريري 23 سنة ممن عمل ضمن حملة جدة: "في الفيس بوك، تشعر بأنك في مجتمع حقيقي. وتقابل مختلف الأعمار ومستويات التعليم، تعبر عن نفسك بكامل الحرية ويسمعك الآخرون، ويناقشونك بكل احترام. الفيس بوك هو الذي ساعدني في رحلة العمل التطوعي وأعتبره من أنجح المشاريع في الحياة". كلام عبدالله لمن يقرأه من المربين والقياديين في المجتمع لابد وأن يشكل صعقة كهربائية عالية المحتوى. تأملوا قوله هنا: "إن مجتمع فيس بوك مجتمع حقيقي". هل يقصد ابننا العزيز عبدالله أن المجتمع الحقيقي ليس حقيقياً والمجتمع الذي نعرف أنه هو الافتراضي أصبح هو الحقيقي؟ يا له من فشل ذريع لا أحد غيرنا يتحمله ولم يأت من "مؤامرة غربية". كيف صنعنا وقدمنا مجتمعنا لهذا الشاب المتقد حيوية وعطاء وتضحية في سبيل مساعدة ضحايا مدينته بهذا الشكل الذي لم يراه حقيقياً؟ مالذي فعلناه نحن بأنفسنا وبمجتمعنا حتى ظهر هذا المجتمع بكل هذا الزور والزيف في نظر فلذات الأكباد؟ الواقع أن هذه الكارثة بكل مآسيها الإنسانية التي نعرفها جميعاً كشفت لنا أجزاء من تجاربنا الفاشلة وما أكثرها. ليتنا نشكل مجلساً من الخبراء في علم الاجتماع والأمن والتربية لنعيد دراسة هذا المجتمع المعبأ بكل ما هو متناقض. نعم سنبحث عن الفاسدين من خلال لجنة التحقيق التي نتطلع باهتمام إلى نتائجها وما قد يلي هذه النتائج من إجراءات. لكن لا يجب أن نغفل عن المدمرين أيضا لقيمنا وأخلاقياتنا. أنا هنا أتحدث عن المعلمين والآباء والخطباء والوعاظ ومسؤولي الأمن وبعض رجال الأعمال. نتحدث عن منتج سيء مدمر اشتركنا جميعاً في تكوينه من خلال ترسيخ مفهوم الشك والريبة في هذه الفئة المفصلية والغالية علينا ووضعها كبش فداء لتغطية فشلنا في بناء المجتمع المنشود. لهذا أكرر، لا يمكن أن تمر هذه التجربة بلا فائدة. الممارسات القمعية والتي مارسناها ضد هذا الجيل وأحكامنا المسبقة والقاسية عليهم والتي كشفت زيفها صور العطاء الجميلة التي قدمها شباب وشابات جدة لا تقل فظاعة عن الكارثة الإنسانية ذاتها. إنها جزء من الكوارث الصامتة التي نتعايش معها ونتقبلها لكننا لم نتمكن بعد من كشفها ولا التصدي لها وبالتالي أهملنا البحث عن معالجتها. كشفت الحملة حجم الكذبة الكبرى بأن شبابنا ضالون ومتغربون وأنهم آفات بشرية بلا قيم ولا نخوة ولا أخلاق. تقسم الفتاة داليا كتوعة وهي طالبة جامعية ممن ساعد في هذا العمل الجميل إنها وطوال عملها منذ أسبوعين في مركز جمع التبرعات لم يضع شاب عينه في عينها بشكل مباشر. تقول: "الجميع يخاطبني ب يا أختي ويا أستاذة". وتضيف: "والله أنا فرحانة بهؤلاء الشباب، ونفسي أسلم على رأس كل واحد منهم هنا، مجتمعنا بخير فعلا". نعم يا داليا مجتمعك بخير ولكننا، نحن، لم نشاهده هكذا ولهذا فأنا أطلب منك العفو والسماح. سامحونا يا شباب الوطن لأننا فضلنا ممارسة القمع على بناء مجتمع القانون والحقوق والعدالة. سامحونا لأننا غلبنا كل الظنون السيئة بكم تجنباً من مواجهة عوارنا وإفلاسنا في بناء المجتمع الذي ربما حلمتم به والذي كان يفترض أن يتمتع بالقيم العالية والأخلاق الرفيعة الحقيقية على الواقع. سامحونا لأننا فضلنا وضع رؤوسنا في الرمال لنتباهى أمام الغير بأننا "مجتمع الفضيلة" المتميز وما أبعد ممارساتنا معكم عن الفضيلة. سامحونا وإن رغبتم فسنقف معكم اليوم لإعادة بناء المجتمع وتهيئته من جديد لما تبقى لكم من العمر والأهم من ذلك لأبنائكم وأجيال الغد وقد قيل إن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً.