نشرتْ العديد من الحسابات في وسائل التواصل خبر مناظرة كبرى في الهند، وتسبب الأداء اللامع وفق هؤلاء المدعين للمناظر المسلم على عهدة المصدر بإسلام عشرين ألفا! هكذا صيغ الخبر، فلما تابعتُ المناظرة إذا بها متواضعة ليس فيها دلالة على ذلك التَضخيم المدعى لها، فهي مناظرة بين مسلم وملحد، والحضور قليل، ولم يكن الأداء لافتًا، حتى إن المناظِر المسلم الهندي دافع عن مفهوم كلامي فلسفي يخالف فيه ما قرره السلف في العقائد الإلهية، ولا يوجد ما يثبت أنها تسببت بإسلام أحد فضلًا عن إحصائهم بذلك الرقم الكبير. وهنا تذكرت ما قاله ياسر زعاترة قديمًا وهو ينصح القيادات الحزبية لجماعة الإخوان، ففي إحدى مقالاته قال، إنه يرى ضرورة إشغال القواعد الحزبية، شيء يشبه اختلاق أي فعل لتحسب تلك القواعد أن مشروعها ليس مجمدًا، حتى لا تصاب بالفتور، أو قل: حتى لا ينالها الوقت الكافي الذي يدفعها للتفكير في المشروع كله، وهكذا يجري اختلاق عشرات المناورات التي تقتصر وظيفتها على إبقاء العنصر في حالة من الشغل، بما يمنع عليه مساءلة قيادته أو أفكار الجماعة، وفي الجانب الآخر يحسب أنه يقدم شيئًا ذا بال في مشروع طويل ممتد لخدمة الأمة. إن عنصر الإشغال هذا هو ما يقوم به كثيرون في وسائل التواصل، نشر أخبار زائفة، مبالغة ببعض الأحداث البعيدة، ورفع أهمية حدث هامشي جدًا، ليبقى متابعوهم مشدودين لقضية تلو قضية، أو قل: هم في واقع الأمر مشتتون، لا يدركون أنهم بذلك قد منحوا من يحيلهم إلى مختلف هذه المواضيع مرجعية التوجيه الفكري، والعنوان الواسع أنهم ضمن مشروع يهتم بقضايا الأمة، دون أي دلالة صادقة على وجود هذا المشروع من الأساس! وكان حزب مثل (حزب التحرير) مضرب مثلٍ فيمن رفعوا عنوان (مشروع الأمة) إذ ادعى بأنه يعمل لإعادة الخلافة الإسلامية في العالَم الإسلامي منذ ما يزيد على 70 عامًا، فأدخل أتباعه في دوامة من الإشغال وهم يحسبون أنهم بذلك يقدمون شيئًا في مشروع يقدمهم إلى الخلافة! وفي غمرة ذلك الإشغال أصدروا مجلة تجمع مختلف الأخبار التي تذيعها القنوات العالمية، لكنهم يخصصونها بالمناطق إسلامية، مع مسحة من التوجع على حال المسلمين، أو التوجيه الأيدلوجي داخل الخبر، أو نثر الأمل بأن إقامة الخلافة قاب قوسين أو أدنى، وهكذا ضمن هذا الحزب إبقاء عناصره تابعين له وهو في شيخوخته، دون أن يقدم أي شيء على أرض الواقع. فالأمر أشبه ما يكون بالتنويم المغناطيسي، باستنساخ لما قامت به جماعات متصوفة أمرتْ أتباعها بالانشغال بترديد عدد كبير من الضمير (هو، هو...) تحت عنوان (ذكر الله) لتضمن إشغال هؤلاء المريدين ما داموا يلتزمون بما يأمرهم به شيخ الطريقة، ولا يستطيع التابع من هؤلاء أن يبقي في ذهنه فسحة ليسأل نفسه عما أفنى عمره فيه، فالإنسان حتى ينضج يحتاج إلى روية ووقت حينَ يقيم حدثًا، أو واقعة، لكن هؤلاء صار مشروعهم يختصر بإبقاء المتابعين في دوامة من الإشغال، وقد كتب مرة الفيلسوف البريطاني برتراند راسل كتابًا بعنوان (في مدح الكسل) ومضمونه أن الإنسان لكي يبدع في مجال فكري أو معرفي يحتاج إلى الابتعاد عن الانشغال العبثي، وعدم إطالة وقته في الأعمال التي تضر بملكاته ومواهبه الأخرى، حتى لو سُمي ذلك بالكسل! لكن تلك النصيحة الثمينة التي قدمها راسل عمل بخلافها هؤلاء في كل حين، إذ لم يكن همهم رفع الوعي في أتباعهم، ولذلك تجد أحدهم حينَ سمع بوقف الحرب في غزة خرج في مقطع على يوتيوب يستنهض ويستنفر الناس، ويقول إن زمن الخوف قد ولى! وفي أتباعه من يحمد صنيعه، ويرى أنه بذلك وقف وقفة لم يقمها غيره، رغم أن ما نشره لا علاقة له بأي تأثير في مجريات الواقع، لكنه عنصر إشغال جديد حين يعتقد التابع أنه إن أمضى مشاهدته كاملة بما في المقطع من فواصل دعائية تحقق الربح لصاحب القناة، فإنه بذلك يخدم مشروع الأمة، ويعمل على إعادة أمجادها، وكلما اجتهد في التزامه بعناصر الإشغال كان أشد تعطيلًا لعقله وأسئلته، وأبعدَ عن كونه جزءًا من مشروع ذا شأن فكري أو سياسي يخدمه أو يخدم مجتمعه فضلًا عن الأمة!