المُعطى الملموس والمَرجع المُؤسِّس لتاريخ أيّ أمّة، يُمكن حصره في أساسَيْن اثنَيْن: أساس مادّيّ هو المدينة، وأساس غير مادّيّ هو اللّسان. فالمُدن تبقى شهادةً حيّة على الأُمم التي أَنشأتها. في هذا السياق، لا جدال في أنّ المُدن العريقة على الساحل المُتوسّطيّ الشاميّ تَشهد على عبقريّة الكنعانيّين. خلال العصور القديمة، لم يكُن ثمّة مفهومٌ يُعادِل ثقافة «الفينيقيّين» خارج النصوص اليونانيّة. غالبًا ما تتحدَّث نصوصُ الشرق الأدنى (بخاصّة الكتاب المقدَّس) والنصوص المصريّة عن منطقةٍ تُسمّى «كنعان» تقع في بلاد الشام. وهو مُصطلح يَشمل الفضاء الفينيقي، ويَشمل أيضًا فلسطين والجزءَ الجنوبي من سوريا. معنى ذلك، أنّ الروايةَ الشرقيّة لا تَتعارض مع الروايةِ اليونانيّة من حيث إنّ الرواية الشرقيّة تحدَّثت عن الكنعانيّين الذين هُم جزءٌ عضوي من الفينيقيّين.. والعكس صحيح أيضًا، بينما الرواية اليونانيّة تحدَّثت عن فينيقيا فقط. ما المعايير التي يُمكن الاستناد إليها في تعريف الفينيقيّين بشكلٍ أفضل؟ المُعطى الجغرافي هو المعيار الأوّل: لقد استوطَن الكنعانيّون منطقةً ساحليّة، أصبحت تُسمّى فينيقيا. مُدن هذه المنطقة، وبالرغم من أنّها تتقاسم الفضاءَ الترابي نفسه، لم تَنتظم داخل كيانٍ سياسيٍّ واحد، لكنّها تُوحي بوحدة خصائصها الجغرافيّة (كما هو حال اليونان القديمة). وهي مُدنٌ مُستقلَّة بعضها عن بعض، وبالموازاة ثمّة ما يوحي بالانتماء المُشترَك. اللّسان هو المعيار الثاني: فقد أَسفرت مواقعُ فينيقيّة عن نقوشٍ بالأبجديّة الفينيقيّة، مكتوبة بلسانٍ ساميٍّ - غربيٍّ (Northwest - Semitic)، أي اللّسان الفينيقي. وهذا، وفْقَ الأبحاث العلميّة، موجودٌ بالفعل في مواقع فينيقيّة، حتّى لو رَصدتْ هذه الأبحاثُ اختلافاتٍ إقليميّة بحسب اختلاف المَمالِك، وخارجها أيضًا. علاوةً على ذلك، فإنّ تميُّزه عن ألسنة الأقاليم المُجاوِرة، لم يَمنع الفينيقيّين من التواصُل والتفاهُم مع تلك الأقاليم. المعيار الثالث هو الدّين، حيث ثمّة انطباع بأنّ المُدن الفينيقيّة لديها وحدة دينيّة بالرغم من أنّ لكلِّ مدينة آلهتها المحليّة. من حيث الثقافة اللّاماديّة، ولاسيّما الفنّ، ثمّة اختلافاتٌ إقليميّة. ويُمكن تفسير هذه الاختلافات اللّسانيّة والثقافيّة الطفيفة وغيرها بالعامل الاجتماعي - الزمني، من حيث إنّ المُدنَ منذ نشأتها الكنعانيّة (الألفيّة الثانية ق.م) عاشتْ تحوّلات، وأنّها منذ العام 1200 واجَهت اضْطرابات بعدما أَصبحت مصبّاً للهجرات، ولاسيّما شعوب البحر التي استوطَنت جوار فينيقيا، والآراميّين، فضلًا عن المستوطنات الكنعانيّة الأخرى. في هذا السياق، حدث تحوُّلٌ في بعض المُدن الفينيقيّة حيث بَدأت مدينةُ صور مثلًا في التوسُّع غربًا، على ضفاف المتوسّط، شمالاً وجنوبًا. من فينيقيا إلى المَمالك الأمازيغيّة تُفيد المُعطيات التاريخيّة بأنّ الكنعانيّين، وبحُكم انتشارهم واختلاطهم بجماعاتٍ بشريّة متنوّعة، وبصرف النّظر عن موطنهم الأصلي، عاشوا سيرورةً من التحوُّلات التي ترتَّب عنها تنوّعٌ في الجماعات الكنعانيّة: فينيقيّون (Phoenicians) فينيقيّو بلاد الشام، فينيقيّو أيونيا، وبونيقيّون (Punic) بونيقيّو شمال أفريقيا، بونيقيّو جنوب أوروبا. وهذا يعني أنّ الثقافةَ الفينيقيّة، وفْق نظريّة الهيجيمونيا (Hegemony)، استوعَبت ثقافاتِ الأقاليم التي استوطنتها. فأيونيا مثلًا كانت فضاءً متعدّد الأعراق والثقافات، وكذلك منطقة اللّيفانت (Levant)، فضلًا عن جنوب أوروبا وشمال أفريقيا. نَستنتج أنّ الكنعانيّين استوطَنوا الساحلَ المتوسّطيّ لبلاد الشام، ومع الزمن انبثقت منهم جماعاتٌ متمايزة منها الفينيقيّون، ومن الفينيقيّين خَرج بعض المغامرين إلى شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وأسَّسوا مع سكّان تلك البلدان مُدنًا واشتهروا تحت اسم البونيقيّين، ومن البونيقيّين تفرَّعت أجيالٌ جديدة في شمال أفريقيا، منها القرطاجيّون والنوميديّون والموريطانيّون. هؤلاء الفينيقيّون عاصروا ما سمّاه كارل ياسبرس بالعصر المحوري الأوّل، وهو العصر الذي لا يُمكن أن نَفهم تاريخنا البشري إلّا في ضوئه. ثمّ خرجوا من صور وصيدا وربّما من مُدنٍ أخرى وأصبحوا مع الزمن جماعاتٍ متميّزة عن الجماعة الأمّ: جماعات أوروبيّة وأخرى أفريقيّة، أسَّست مُدنًا في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا؛ واشتهروا تحت اسم البونيقيّين. هذه الجماعات البونيقيّة، بشراكةٍ مع السكّان المحليّين، أسَّست مُدنًا عدّة (من ضمنها قرطاج، سيرتا، وسيغا، هيبون، شرشال، روسيكاد..) ومُدنًا أخرى على ضفاف الشمال الأفريقي. وهي الفترة التي أسَّست للمَمالك الأمازيغيّة الثلاث (قرطاج، نوميديا وموريطانيا). ولأنّ معظم أسماء الآلهة والشخصيّات الأسطوريّة الواردة في أشعار هسيودوس وإلياذة هوميروس، تحمل أسماء ذات أصولٍ قبطيّة وفينيقيّة، فغالبًا ما يَتنازع التيّاران العروبي والمزوغي حول الماضي وحول الرموز والأسماء، وحتّى حول الاكتشافات الأركيولوجيّة والجينيّة، حيث يَطغى التأويل التعسّفي في مظهره الأيديولوجي. الفتوحات الإسلاميّة الغزو العربي لشمال أفريقيا لا جدال فيه، ولا ينقض مفهوم الفَتح، فالغزو قديمًا وحديثًا ظاهرة بشريّة تَختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. وكان من الطبيعي أن تخوض الدولةُ العربيّة النّاشئة حروبًا فَرضها الوضع الجيوسياسي، حيث كانت بيزنطا تبسط نفوذَها على بلاد الشام. في هذا السياق التاريخي خاضت الإمبراطوريّة الأمويّة، التي دامت تسعة عقود (661 - 750)، سلسلةَ معارك ضدّ الوجود البيزنطي. كان الفضاء الجيو - مسيحي الروماني في شمال أفريقيا مزيجًا من التفاعُلات بين المذاهب والكنائس والحركات الانفصاليّة التي ترتّبت عن تغلْغلِ المسيحيّة في المُستوطنات الرومانيّة. وكتحصيلٍ حاصل كانت الحرب العربيّة البيزنطيّة مدخلًا إلى التوسُّع العربي في أفريقيا. هذه الأنشطة العسكريّة التي اشتَهرت تحت اسم «الفتوحات الإسلاميّة» وفْق السرديّة السُّنيّة، كانت من المُدخلات التي فَرَضها منطقُ التاريخ، من حيث إنّ العرب كانوا مُجبرين على ولوج شمال أفريقيا لسببَيْن رئيسيَّيْن: أوّلًا: عدم السماح للبيزنطيّين باسترجاع نفوذهم، وهذا يتطلّب مطاردتهم في أيّ مكانٍ في الجوار؛ ثانيًا: تحالُف زعماء شمال أفريقيا من أقباط وأمازيغ مع العرب ضدّ الحُكم البيزنطي؛ وبالتالي، لم يكُن التوسُّع العربي غزوً للأقباط ولا للأمازيغ، بل كان حربًا أمْلَتها الظروفُ ضدّ الوجود البيزنطي الذي كان له، هو أيضًا، حلفاء أقباط وأمازيغ. وقضى منطق الصراع أن يَنتصر العرب وحلفاؤهم الأقباط والأمازيغ. كما أنّ الغزو العربي لم يكُن حالةً شاذّة في التاريخ البشري، أو جريمةً أبديّة لا يطويها التقادُم، يَستثمِر فيها، على الطريقة الصهيونيّة، كلُّ مُغامرٍ وَجَدَ في موضوع «الحقوق والحريّات» حصان طروادة للتسلُّل إلى قلوب الشباب والتلاعُب بمصالحهم كما فعلَ مُغامرو الإسلام السياسي باستغلال الشباب تحت شعار «الإسلام هو الحلّ». الجرمان والأمازيغ: من الوجود البونيقيّ إلى اليوم في ضوء ما تقدَّم، إذا قُمنا بقراءةٍ مُقارِنة لأفريقيا «الأمازيغيّة» وأوروبا «الجرمانيّة»، سنَخرج بسؤالٍ محوري: لماذا نَجح الجرمان في التحرُّر من الهيْمَنة الرومانيّة في الوقت الذي فَشل الأمازيغ؟ لا شكّ أنّ قبائل جنوب أوروبا على الساحل المتوسّطيّ والقبائل «الأمازيغيّة»، كان لهما، تحت التدبير الفينيقي، دَورٌ في بِناء المُدن وتدبير شؤونها. مع نشأة «الجمهوريّة الرومانيّة» وسياستها التوسعيّة حدث صراع ضد الهيمنة الرومانيّة، قادته القبائل الجرمانيّة. وفي سياق تحوُّل روما من الحُكم الجمهوري إلى الإمبراطوري، اشتدَّ الصراع الجرماني الروماني وانتهى بسقوط روما في القرن الخامس ميلادي (476 م). في الوقت الذي ظهر الجرمان على مسرح التاريخ، عَبْر التأطير المقدوني، ضدّ الرومان، حَدَثَ صراعٌ بين الأمازيغ حول الحُكم، فانحاز ماسينيسا إلى روما ضدّ قرطاج وحليفها سيفاكس (وسبق أن تحالَفَ سيفاكس مع روما ضدّ قرطاج وحليفها ماسينيسا). حدثَت تحوّلاتٌ عنيفة كان من مُخرجاتها أنّ «الجمهوريّة الرومانيّة» دمَّرت قرطاج، وقَضت على مَملكة سيفاكس، ثمّ على كلّ الممالك الأمازيغيّة بَعد نشأة القسطنطينيّة. مع القرن الثامن الميلادي، بعد نشأة الإسلام في البلاد العربيّة، تقلَّص النفوذ الروماني وبَسط الأمويّون حكمَهم على شمال أفريقيا وأجزاءٍ من جنوب أوروبا (الجزيرة الإيبيريّة وجزيرة صقلّية). ومع القَرن العاشر تأسَّس أوّلُ كيانٍ سياسي جرماني تحت اسم «الإمبراطوريّة الجرمانيّة المقدَّسة»، بينما أسَّس الأمازيغ منذ القرن الثامن كياناتٍ سياسيّة عدّة، أغلبها كان على خلفيّةٍ إسلاميّة ووفق خصوصيّاتٍ محليّة مُتناغِمة مع العُمق العربي للإسلام (الرستميّون، الأغالبة، الأدارسة، المُرابطون، الموحّدون....)، وبعضها حاول التحرُّر من المرجعيّة العربيّة كما هو حال الدولة البورغواطيّة (ذات الأصل المصمودي) التي قَضت عليها الدولةُ المُوحّديّة ذات الصلة بالمرجعيّة العربيّة (وذات الأصل المصمودي أيضًا) منتصف القَرن الثاني عشر. مع سقوط القسطنطينيّة وسقوط الأندلس، انتبهَ الجرمان إلى أنّ دَورهم في التاريخ لن يتحقَّق إلّا بامتلاك الماضي بوصفه إرثًا من حقّهم التصرُّف فيه. أَبقوا على كلّ ما هو حضاري، أي على إرث العصر المحوري، وفْق تعبير كارل ياسبرس. بَنوا حضارتهم على الإرث الوضعي: الإغريقي والروماني، وكذلك الإرث الدّيني: المسيحي، اليهودي والإسلامي. استفادوا من الإرث الأندلسي من مُنطلق أنّ الأندلس كانت موطنًا للتعايُش السلمي ومحجًّا لطلّاب المعرفة ومَوردًا للعلوم والفنون. انتهى المطاف بالجرمان إلى تأسيس كياناتٍ سياديّة، اشتهرَت تحت اسم «الدول - الأُمم»، بينما فشلَ الأمازيغ في بناء كياناتٍ قويّة وسياديّة، فسَقطوا تحت الحُكم العثماني بداية القَرن السادس عشر، ثمّ الحُكم الأوروبي/ الجرماني مع القَرن التاسع عشر. عالجتِ القبائلُ الجرمانيّة أوضاعَها السياسيّة بكثيرٍ من الواقعيّة، وفق ما كان متاحاً، فنَشأت ألْسِنةٌ ولغات جديدة على أنقاض اللّسان اللّاتيني. لم يَبتكر الجرمان أبجديّةً جديدة ولم يَعملوا على توحيد اللّسان الجرماني، فازدهرتِ الألسنةُ المحليّة بفرعَيْها: الجرماني (Germanic languages) والرومانسي (Romance languages). فضّل الألمان أن يَحتفظوا باسم أسلافهم اسما لدولتهم (Deutschland)، وكانوا أكثر تطرُّفا في نزعتهم الجرمانيّة، حيث نَشأت تنظيماتٌ عدّة كان مصيرها الفشل على غرار (German Confederation) و(Pan-Germanism). هذه النّزعة المُتطرّفة كانت وراء صعود النازيّة واندلاع الحرب العالميّة الثانية. وبَعد هذه الحرب خَرجت ألمانيا من نزعتها القوميّة الإثنيّة (Ethnic nationalism) إلى القوميّة المدنيّة (Civic nationalism) وقامَت بدَورٍ محوريّ في بناء الاتّحاد الأوروبي. الفضاء «الأمازيغي» تعاقَبت عليه إمبراطوريّاتٌ عدّة، مع نهاية العصر الكولونيالي وجد نفسه أمام وضعٍ جيوسياسي محلّي وأُمميّ لم يَتعَاطَ معه بواقعيّةٍ من حيث التدبير السياسي لقضاياه وشؤونه، ولاسيّما القضيّة اللّسانيّة، ومسألة الهويّة. يبقى السؤال المطروح: ما موقعنا كمغاربة في زمننا الرّاهن؟ ما موقعنا كأُمم مغاربيّة تنتمي إلى «منظّمة الأُمم المتّحدة»، وإلى «جامعة الدول العربيّة»؟ ومتى نتمثَّل هوّيّاتِنا التي أَنتجتها السيرورةُ التاريخيّة، بعيدًا من الهويّات المُتخيَّلة؟ كيف نخرج من أزمة الهويّة أو من الهويّات المتأزّمة في الأقطار المغاربيّة؟.. هنا لا شكّ أنّنا نحتاج اليوم إلى نقاشٍ علميّ حول هويّاتٍ أكثر تاريخيّة وواقعيّة، هويّاتٍ متماسكة (Cohesive identity)، من حيث إنّ هذه الهويّات مُنتجاتٌ تاريخيّة لا يُمكن محو الثقافات التي أَنتجتها، ومن حيث إنّها مُنتجاتٌ سياسيّة لا يُمكن بناؤها إلّا وفْق مفهوم الأمّة المدنيّة ودولتِها. *شاعر وباحث من الجزائر * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.