ما أكثر ما يظن الإنسان أن لطمأنينته بابًا إذا طرقه انفتح، وأن لراحته مفتاحًا إن أداره استوى له كل معوَّج!، فإذا جرب الحياة علم أنها ليست دارًا تُؤتى من باب واحد، ولا ساحة تُسيّرها الرغبات ولا الأماني؛ بل هي سراب يلمع ليختبر بصيرتك، وظل يمتد ليقيس ثباتك، وماء قد يرويك ساعةً ثم ينقلب عليك زَبَدًا يُعكِّر صفوك. إن القلق لا ينتهي بجرّةِ قرار، ولا يزول الحزن لأنك أعلنت العصيان عليه، ولا يُجتث الهمُّ لأنك أقسمت أن تُحسن الظن بالأيام؛ فالحياة لا تتشكل على مقاس رغائبنا، ولا تنقاد لسلطان حُسن الظن وحده، الطمأنينة ليست مرفًأ تُبحر إليه السفن، بل هي الريح التي تملأ شراع الداخل، هي صناعة روحٍ تعرف موضع قدمها في هذا الزحام، وتُدرك أن موج الدنيا لا يهدأ، وأن السكون الكامل وعد لا ينزل في أرض الفانين.. فكل وعد غير وعد الله إلى انطفاء، وكل سعي لا يُؤسس في القلب فهو بناء معلَّقٌ في الهواء. تأمل في طبيعة الكَدَر: إنه ليس عرضًا طارئًا يأتيك من حينٍ لآخر، بل قَدَرٌ يتخلل نسيج الحياة كما تتخلل المرارة حلاوة الثمر، وما صفاء المرء إلا فترات من النور بين غيمتين؛ ولهذا تُخفق نفوسٌ كثيرةٌ حين تظن أن همَّها سيزول بزوال سببه، أو أن حزنها سينقطع بتبدل ظرف، ثم تتفاجأ أنها وإن نالت مُناها، بقي في القلب شيءٌ لا يذهب؛ فإن للروح مطالب لا تستجيب للمكاسب، وللقلب عطشًا لا ترويه الدنيا مهما أقبلت. كم من رجل جمع الدنيا أطرافًا، وتداعت له النِّعَمُ كأنها تتسابق إلى عتبة بابه، لكنه ينام على وسادة من قلق رقيق، وينهض على وجع لا يُرى، ويعيش بين رجاء يتقد وندم يتخفى، ووهمٍ يتناسل كلما ظن أنه قطع جذوره، وكم من امرأةٍ ظنت أن السعادة تُغرس بيد أحد غير يدها، فظلت تنتقل من أمل إلى أمل، ومن مطلعٍ إلى آخر، لتكتشف أن الضياء يبدأ من جوفها لا من النوافذ التي تفتحها للناس. الحياة تُدرّسنا بصمتٍ أن توازن الإنسان لا يتحقق بوفرة ولا بسعة، بل بعمق داخلي لا تحكمه الظروف، وأن الرضا ليس استسلامًا، بل قوة تتجاوز اضطراب المشهد إلى ثبات المعنى، وأن القناعة ليست فقرًا في الطموح، بل غنًى في البصيرة؛ إذ يعرف صاحبها أين يقف، وماذا يملك، وما الذي يكفيه، وما الذي يُثقله لو حازه.. هيّا، انظر في نفسك لا في دارك.. متى أصلحت الداخل هدأ الخارج ولو اضطرب، ومتى عمرت قلبك بالإيمان والسكينة، خفَّ وقع الفقد، وسهل احتمال العطب، وصارت الأيام وإن قست كمعلم يملأ يديك بالحكمة ولو جرح أصابعك، أما إذا أهملت الداخل فسيظل الفرح سطحًا يتكسر، والنجاح غيمةً لا تُمطر، والسعادةُ برقًا لا يستقر، فاستعِدّ للرحيل بزادٍ جميل؛ فالمسافر لا يثقل حقيبته بما لا ينفعه.. واحمل معك عملاً يضيء، ويقينًا يثبت، ونفسًا صافية لا تُحمل خصومة، ولا تُغذى بالحسد، ولا تُباع للسراب، واعلم أن الفناء ليس فزعًا لمن أصلح باطنه، بل هو أبواب نور تُفتح لمن أحسن الزرع في ظلمة التراب، فلا تُحرق نهارك بانتظار غد قد يتأخر، ولا تُطفئ بصيرتك بنار أمنيات قد لا تجيء. امشِ الهوينى، وارفع رأسك.. واهدأ؛ فإن الطمأنينة تُولد من رحم التأمل، وتكبر بالرضا، وتُكلَّل بالقرب من الله، وتُصان بأن تعرف أن الدنيا مهما توسعت فهي ضيقة على قلبٍ بلا معنى، ومهما ضاقت فهي فسيحة على روح عرفت ربَّها.. هذه هي الحكمة كلها: لا تعول على الخارج؛ فإن الخارج سريع التقلب.. واعمر الداخل؛ فإن الداخل إذا صلح صلحت معه الدنيا بأجمعها، ولو كانت قاسية.