نظرًا لتوقفي الطويل نوعًا ما عن الكتابة لكم بسبب بعض الانشغالات، رأيت أن أقدم بمقدمة بين يدي استئناف سلسلة مقالاتي عن السيرة الحركية للإخواني محمد أحمد الراشد، التي توقفت فيها عند مقال رقم 12، وعنوانه: «الراشد أملى على الصحويين ما يقولون». وعطفًا على مادة كرتونية مستلهمة من «مزرعة الحيوان لجورج أورويل» زودني بها الصديق العزيز الأستاذ عمر بنان، استوحيت عنوان المقال وفحواه، لما بين السلسة وهذه المقدمة أو المقال من ارتباط وثيق، إذ إن «الراشد» يعد أهم دعاة الثورات والانقلاب على الأنظمة العربية ومنظريها، إضافة إلى أننا في هذا الشهر نكمل 15 سنة على مرور اليوم التاريخي: (17 ديسمبر 2010)، حينما أوقد التونسي محمد البوعزيزي شرارة ما سمي «الربيع العربي»، وهو الحري بأن يسمى «الحريق العربي». في كل مرة تقرأ فيها رواية جورج أورويل الشهيرة (مزرعة الحيوان، 1945)، تدرك أن الرواية ليست حكاية رمزية عن حيوانات متمردة؛ بل هي تحليل عميق لمرض سياسي يصيب الدول حين تُقاد بالانفعالات بدل المؤسسات، ففي (مزرعة أورويل) تبدأ الثورة بشعارات عظيمة: الحرية، والمساواة، والعدالة، لكن ما يلبث القائد الثوري أن يتحول إلى نسخة ممسوخة من أسوأ نظام استبدادي يمكن أن يحكم، وتصبح الشعارات مجرد ستار لهيمنة نخبة صغيرة تحكم بالكذب والتضليل، وكان من عبقرية أورويل عدم انتقاد الاستبداد فحسب، بل إنه انتقد آلية تشكله من داخل الثورة نفسها، فالخنازير رمز «الطليعة الثورية»، تعديل «المبادئ الثورية» تدريجيًا، بما يتلاءم مع مصالحها الذاتية، وتستغل الجهل والحماس الشعبي، حتى تصل في النهاية إلى شعارها المهين: «كل الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من الآخرين»، وهذه الجملة تلخص حقيقة عاشتها كثير من شعوب «الحريق العربي»: ثورات تُبنى على أمل، وتنتهي إلى فوضى، يتسلق من خلالها النفعيون. وهنا تظهر المفارقة التاريخية والسياسية: فبينما انهارت أنظمة عربية بسبب الانقلابات أو الثورات أو الصراعات الداخلية، بقيت السعودية دولة مستقرة وقوية وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي، والسبب مزيج من عوامل لا تجتمع إلا نادرًا: أولها: شرعية تاريخية ممتدة وليست طارئة، فالدولة السعودية ليست «ثورة» ظهرت عبر موجة غضب، بل هي مشروع دولة بُني طبقة فوق طبقة منذ ما يقارب من 300 عام، وهذا منح الحكم السعودي عمقًا اجتماعيًا وسياسيًا افتقدته الأنظمة الثورية، أو الأنظمة المتحررة أو المستقلة عن دول الاستعمار بعد النصف الأول من القرن العشرين. وثانيها: استقرار القيادة ووحدة القرار، فأورويل يصف في روايته كيف تتصارع قيادات الثورة على النفوذ، وكيف يتحول «التعدد القيادي» إلى استبداد مبطن، بينما يرى أي مراقب للحالة السعودية أن وحدة القيادة كانت دائمًا عنصر قوة، وأن تداول السلطة داخل الأسرة الحاكمة لا يقوم على الفوضى أو الانشقاقات، بل على ترتيب واضح وتوافق تاريخي. ثالثها: الإصلاح أولًا ودائمًا، فالفرق الجوهري بين الثورات والدول المستقرة أن الأولى تأتي عادة بعد فساد طويل، بينما الثانية تبادر إلى الإصلاح قبل أن تتآكل، والسعودية بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وفي كنف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، قدمت نموذجًا إصلاحيًا استثنائيًا خلال تسع سنوات: عبر حزمة متكاملة من الإصلاحات الاقتصادية، والاجتماعية، والمؤسساتية، مع إعادة بناء مفهوم الدولة الوطنية الحديثة دون أن تخسر جذورها أو شرعيتها. ورابعها: علاقة الدولة بالمجتمع، ففي «مزرعة أورويل» تنجح النخبة الثورية في السيطرة لأنها تفصل نفسها عن المجتمع وتستغله، بينما في السعودية العلاقة بين الدولة والمجتمع ليست صراعًا، بل شراكة، وهذا التوافق هو ما جعل المواطن السعودي جزءًا من الاستقرار، لا وقودًا لاضطراب داخلي، وهنا يأتي الدرس الأكبر: «ليس كل تغيير ثورة، وليس كل استقرار جمودًا»، فمن أعظم ما تقدمه الرواية هو كشفها أن «الثورة» ليست فضيلة بحد ذاتها، وأن «الاستقرار» ليس نقيضًا للتقدم، فالدول التي تبقى على قدميها ليست تلك التي ترفع الشعارات الأعلى صوتًا، بل تلك التي تبني مؤسساتها وتربط حاضرها بتاريخها وتخطط لمستقبلها بعقل، ولهذا حين يرى القارئ في نهاية الرواية، أن «الثوري» أصبح «مستبدًا»؛ يفهم لماذا بقي الحكم الملكي السعودي ثابتًا بينما انهارت أنظمة أخرى، لأن الثبات ليس خوفًا من التغيير، بل هو القدرة على تغيير الوطن والمواطن من الداخل دون أن يتحولا إلى ساحة تجارب. من كل ما سبق، كان من الطبيعي أن تكون للسياسات السعودية واستقرارها وثباتها كدولة مواطنة ودولة مؤسسات، دورًا حاسمًا في حماية الاستقرار الإقليمي، والتقليل من كلفة الفوضى على شعوب المنطقة، حيث بادرت: أولًا: بدعم استقرار مصر، إذ رأت أن سقوط مصر في الفوضى سيعني سقوط الإقليم كله؛ فكان دعمها السياسي والاقتصادي لمصر (بعد 2013) خطوة إستراتيجية لحماية عمود الاستقرار العربي. وثانيًا: مواجهة التمدد الإيراني واستغلاله للفوضى، فإيران حاولت تحويل فراغ بعض الدول العربية إلى مناطق نفوذ، فتحركت السعودية عبر تحالفات سياسية وعسكرية لحماية الشرعية ومنع الانهيار الكامل لتلك الدول. وثالثًا: مبادرات الحوار الإقليمي، فقادت السعودية مسارًا جديدًا يقوم على خفض التوترات، والانفتاح على قوى إقليمية، وصياغة علاقات أكثر توازنًا، مما حمى المنطقة من حروب جديدة. ورابعًا: إعادة تعريف الأمن العربي، حيث تحول مفهوم الأمن في السياسة السعودية من الدفاع الحدودي إلى أمن شامل: اقتصادي، وسياسي، وتنموي، واستثماري، ودبلوماسي، وهذا الفهم الواسع جعل المملكة لاعبًا محوريًا في استقرار المنطقة. وخامسًا: النموذج التنموي السعودي كمصدر للإلهام، فقد قدمت نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا يُحتذى به: تنويع اقتصادي، ومشاريع كبرى، وسياسات توظيف، وتمكين للمرأة والشباب. وعودة على أساس الموضوع، فعندما نقارن بين ما حدث في دول الربيع العربي، وما حدث في السعودية، تتضح ثلاث حقائق مركزية: أولها: أن السعودية بادرت بالإصلاح ولم تسمح بأي تهاون في هذا الشأن. وثانيها: أن السعودية لم تترك فراغًا سياسيًا يسمح لقوى متطرفة أو خارجية باستغلاله. وثالثها: أن المجتمع السعودي لم يُستدرج إلى صراع داخلي لأنه يرى أن الدولة شريكا لا خصما؛ ولذلك يبرهن النموذج السعودي أن الدولة التي تعي لحظتها التاريخية، وتمتلك رؤية واضحة، وتتمسك بشرعيتها الاجتماعية العميقة؛ قادرة على أن تصلح ذاتها دون أن تهدم بنيانها، وأن الاستقرار ليس جمودًا، بل شرطًا رئيسًا للتنمية، وأن الإصلاح ليس ثورة، بل مشروعًا وطنيًا متدرجًا يحمي الدولة من الانهيار. يبرهن النموذج السعودي أن الدولة التي تعي لحظتها التاريخية، وتمتلك رؤية واضحة، وتتمسك بشرعيتها الاجتماعية، قادرة على أن تصلح ذاتها دون أن تهدم بنيانها