تخيّل إنسانًا واحدًا يقف بين ثلاثة أزمنة؛ خلفه جدّه الذي عاش الجوع والخوف والخيمة، وهو نفسه عاش زمن السيارة والوظيفة وبدايات التقنية الحديثة، وأمامه حفيده الذي سيعيش مع الروبوت، وذكاء الآلة، وإنترنت الأشياء، لو تتبعنا هذا الخط من زاوية واحدة فقط؛ من أين تأتي لقمة العيش، ومن يحميها؟ فسوف نرى ماضينا بوضوح أكبر، ونلمح ملامح مستقبلنا بصورة أصدق. قبل جيلين أو ثلاثة، لم يكن في الحياة شيء اسمه «راتب شهري»؛ كانت المعادلة قاسية وبسيطة: إما أن ترعى، أو تزرع، أو تجوع، وكانت الأسرة تبقى متماسكة؛ لأن بقاءها معًا مسألة حياة أو موت، والقبيلة هي الدولة؛ تحمي، وتثأر، وتتحمل الديات، وتفرض أعرافًا لا تقل صرامة عن كثير من القواعد الدولية اليوم. القوة لم تكن أرقامًا في حسابات مصرفية، بل عدد رجالٍ يقفون إذا نادى المنادي؛ من يملك خنجرًا أو بندقية يشعر أنه يحمل نصف جيش، وسلاحه جزء من هيبته وأمن جماعته، مصدر الدخل كان واضحًا وخشنًا؛ إبل وبقر وغنم وماشية، وقليل من الزرع حيثما وُجد الماء، الأرض وحدها لا تساوي الكثير؛ الثروة الحقيقية هي العين التي تسقي الحيوانات، أو البئر التي تسقي الشجر، والمراعي التي تعيش عليها القطعان، وكانت الأماكن تُعرَّف بالأودية والأشجار والآبار، لا بالمخططات والأحياء الراقية. في هذا العالم، لم تكن المرأة على هامش الدورة الاقتصادية، بل في قلبها؛ تحصد الزرع، وتجمع الحطب، وتعتني بالماشية، وتحلب وتخض وتخبز وتطبخ، وتدير بيتًا مفتوحًا للضيف على مدار الساعة، وقد لا يجد أهل البيت لأنفسهم ما يُقدَّم للضيف، لكن كرم الضيافة جزء من رأس مالهم الأخلاقي والاجتماعي. ثم بدأ العالم يهتز من تحته دون أن يدري؛ الثورة الصناعية في أوروبا، والمصانع، والسكك الحديدية، وصعود القوى الاستعمارية، وولادة نظريات اقتصادية جديدة، رأسمالية واشتراكية، كانت تبدو بعيدة، لكن أثرها وصل إلينا بصورة بسيطة جدًا عندما ظهرت السيارة. السيارة –كما كانت تُسمّى آنذاك «الفورت» أو «البلكاش»– لم تكن مجرّد وسيلة نقل، بل علامة زمن جديد؛ عائلة كاملة قد تبيع جزءًا من غنمها أو مدخراتها لتشتري سيارة واحدة تكون مصدر عيشها، ومن يعمل «سائقًا» يُعد صاحب مهنة لافتة؛ يسلك الطرق الوعرة، وينقل الناس والبضائع، ومعه «المعاون»، وهي مهنة معروفة في ذلك الزمن، يشاركه إصلاح الأعطال وتمهيد الطريق؛ فالمسافة التي نقطعها اليوم في ساعات، كانوا يقطعونها في أسابيع، السائق يمتلك مهنة يحلم بها كثيرون، ويكون مطمعًا للفتيات، ووجوده في الأسرة مصدر دخلٍ وفخر في الوقت نفسه. في تلك المرحلة، ما تزال الأسرة ممتدة؛ الجد، والأب، والأبناء، والأحفاد تحت سقف واحد، وشخص أو اثنان فقط يتكفّلان بإعالة الجميع، وغالبًا من يعمل في بدايات شركات النفط، أو في الموانئ، أو يكون صاحب «تاكسي» أو شاحنة للنقل، المال الذي يأتي من الابن الذي يعمل في مهن يدوية في المدينة يتوزع على الجميع بلا تعقيد، والشباب يسافرون للعمل بعيدًا؛ لا يعرفون من مات أو تزوج في القرية أو الهجرة إلا بعد أسابيع، لكنهم يرسلون الحوالات بانتظام، وغالبًا رجل واحد يحمل على كتفه ميزانية أسرة كاملة. بعد الحروب الكبرى وتفكك الإمبراطوريات، بدأ طور الدولة الوطنية والمؤسسات الحديثة؛ ظهرت الوزارات، والمدارس، والجامعات، وتحول السؤال من: «أين أرعى؟ وأين أزرع؟» إلى: «أين أتوظف؟ وكم هو الراتب؟»، أصبحت الوظيفة الحكومية الحلم؛ «رقم وظيفي» يعني حياة مستقرة، وتقاعدًا مضمونًا، ومكانة اجتماعية واضحة، وتحول ما يشبه «الاشتراكية العائلية» القديمة إلى «اقتصاد رواتب»؛ كل ابنٍ موظف يعني دخلًا إضافيًا، وكل شهادة تعني قفزة في مستوى المعيشة. مع الوقت، بدأت الأسرة الصغيرة تنفصل عن الأسرة الأكبر؛ لم يعد البيت الكبير يستوعب الجميع، فخرج الأبناء إلى بيوت مستقلة، ثم أصبحت العروس تشترط «دارًا خاصة»، ولو غرفة منفصلة داخل البيت، بعد أن كان المتزوجون ينامون في غرفة واحدة تحت سقف بيت الجد، وتحول مسرح الصراع الاقتصادي من الشجر والماء إلى الأرض والعقار؛ ومن اشترى في الأطراف –وكان يومها محلَّ سخرية– وجد نفسه بعد حين في قلب العمران. ومع تعبيد الطرق، وانتشار السيارات الصغيرة، وتنقل العمالة بين الدول، تغيّر شكل العمل مرّة أخرى؛ انتقلنا من المهن التقليدية إلى الوظائف الرسمية، ومن الإنتاج الأسري للغذاء إلى الاعتماد على الأسواق وسلاسل الإمداد القادمة من أقاصي الأرض، وغابت الأغنام من البيوت، ولم تعد الأسر تزرع، وأصبح الطعام يأتي جاهزًا من مصانع بعيدة، أو من مزارع لا نعرف مكانها على الخريطة. في الوقت نفسه، تقدم التعليم واتسعت المدارس والمعاهد؛ كان من يتخرج في الابتدائية يُذكَر اسمه في المذياع –وكثيرًا ما كان يدرس في مكان بعيد عن أهله– ثم من يتخرج في الثانوية يُنشَر اسمه في الجريدة، ومن يتخرج في معهد المعلمين يُلقَّب ب«الأستاذ»؛ يتقدّم المجلس، ويُستشار في شؤون الناس، وصارت الوظائف التعليمية والعسكرية والصحية أعمدة دخلٍ رئيسة لشرائح واسعة من المجتمع، قبل أن يتضخّم دور القطاع الخاص لاحقًا. ثم دخل الحاسوب، فالإنترنت، فالهاتف الذكي؛ وهنا لم نبدل الأدوات فقط، بل بدلنا طريقة العيش نفسها، تحولت المعاملات من أوراق بين المكاتب إلى أنظمة إلكترونية، ثم إلى تطبيقات في الجيب، وصارت الأسرة أصغر حجمًا وأكثر استقلالًا ماديًا، لكنها في الوقت نفسه أصبحت أكثر انكشافًا؛ بياناتها تنتشر بين منصات وأنظمة، وعالمها الخاص يُرى من شاشات كثيرة. تبدل وجه «الوجاهة» كذلك؛ لم يعد شيخ القبيلة مركز الثقل، ولا الموظف ذو المنصب صاحب الكلمة الأولى، بل ظهر «المشهور» الذي يراه الملايين على الشاشات الصغيرة، ويؤثر في أذواقهم وقراراتهم، استقر مصدر الدخل –في الظاهر– على ثلاثة أعمدة: وظيفة حكومية أو خاصة، أو تجارة مرتبطة بالعقار والخدمات، أو دخل رقمي من محتوى وإعلانات ومنصات، واغتنى بعض الناس بقطعة أرض مر بها طريق سريع، أو قربها من مركز تجاري، بينما تحولت قرى كثيرة إلى أماكن شبه خالية، مع شدة الاستقلال المادي، وضعف الارتباط الاجتماعي. اليوم نقف على عتبة تحول أعمق؛ تحول الذكاء الاصطناعي والأتمتة، دول ومؤسسات كثيرة تسأل: لماذا نحتاج إلى هذا العدد من الموظفين إذا كان نظام واحد يستطيع القيام بمعظم العمل؟، ما كان يحتاج إلى فريق كامل في بنك أو شركة خدمات صار في متناول برنامج ذكي يحسب، ويحلل، ويرد، ويصمم، ويكتب، الأعمال الروتينية في المكاتب والمصانع تواجه موجة أتمتة متسارعة، والخريجون يدخلون سوقًا لا تستوعبهم كما كانت تفعل قديمًا، والوظيفة ذات «الثماني ساعات» لم تعد ضمانًا ولا قاعدة ثابتة. يتشكل أمامنا عالم قد تكون ملامحه كالتالي؛ دخل أساسي أو ضمان معيشي تضمنه الدولة أو المنظومة الاقتصادية ليكفي الحد الأدنى من الحياة الكريمة، على شكل دعم حكومي، وفوقه مساحة واسعة للمهن المرنة، والعمل الجزئي، والمشروعات الصغيرة، والاقتصاد الحر، لن تكون «الوظيفة الدائمة» هي الحلم، بل «المهارة المتجددة» و«القدرة على ركوب موجة التقنية بدل الغرق تحتها»، ومع هذا التحوّل تضيق دوائر الاعتماد؛ بعد الأسرة الممتدة، ثم الأسرة النووية، سنصل إلى فرد يتلقى دخله ودعمه مباشرة، مستقلًّا عن أسرته، ولا يحتاجها ماديًا، ما لم تُبنَ الرابطة على شيء أعمق من المصالح المادية. حتى الحروب تغيرت ملامحها؛ ليس الصاروخ وحده هو السلاح الحاسم، قطع الإنترنت عن مدينة، أو شل شبكة الكهرباء، أو تعطيل أنظمة المدفوعات، قد يساوي في أثره قصفًا على الأرض، الدول التي تمتلك بنية رقمية قوية، وقوة سيبرانية فاعلة، واستثمارًا جادًا في التقنية والذكاء الاصطناعي، ستكون أقدر على حماية اقتصادها وكلمتها في عالم جديد. في مثل هذا العالم، ستطول أعمار البشر في المتوسط، وتتراجع معدلات المواليد في كثير من المجتمعات، وتشيخ الدول؛ سنسير على خطى أوروبا في الشيخوخة السكانية، بينما تبقى أفريقيا هي القارة الشابة، وسيزداد الطلب على من يرعى كبار السن، وقد يصبح الروبوت جليسًا دائمًا لهم؛ يذكرهم بالدواء، ويحادثهم، ويملأ جزءًا من فراغ الوحدة/، وسيرى أحفادك صورك أكثر مما يرونك وجهًا لوجه، ويرون العالم عبر الشاشة أكثر مما يرونه من نافذة البيت. هنا ينتقل مركز الثقل من «المعرفة» إلى «القيمة»؛ لن يكون التحدي الأكبر أن نعلم أبناءنا ماذا يعملون، بل كيف يكونون، أي منظومة قيم يحملون، وأي بوصلة أخلاقية وروحية ترشدهم في عالم مفتوح بلا حواجز تقريبًا، وبلا رقابة اجتماعية كثيفة، وبلا نقص في الخيارات، في هذا الواقع، يصبح الدين أكثر إلحاحًا، لا أقل؛ ليس بوصفه طقسًا اجتماعيًا أو مظهرًا شكليًا، بل إطارًا عميقًا للمعنى يجيب عن سؤال: من أنا؟ ولماذا أعيش؟ وكيف أستخدم حريتي وقوتي ومعرفتي؟. من هنا تبرز الحاجة في التعليم إلى «منهج قيم» متمركز على فلسفتنا الإسلامية، لا ترفًا تربويًا، بل ضرورة وجودية؛ كل تأخير في بناء هذا الإطار القيمي سيُدفَع ثمنه غاليًا في صورة عزلات نفسية، وفراغات روحية، وانزلاقات سلوكية لا تنفع معها مسكنات متأخرة.. التعليم سيتغير، وسيكون له حديث آخر ومقال آخر؛ أما هذا المقال فيريد أن يذكر فقط بأن رحلة لقمة العيش –من زمن القبيلة إلى زمن الخوارزمية– لن تكتمل لصالح الإنسان، إلا إذا رافقتها رحلة أعمق؛ رحلة بناء القيمة والإنسان، في ضوء رؤية إسلامية واعية لهذا العصر وما بعده.