الوطن ليس شعارًا في يوم عابر أو ذكرى مكرورة بلا روح، بل معنى يسكننا أكثر مما نسكنه، وسؤال يتجدد في أعماقنا. اليوم الوطني تاريخ، نكتشف معه أن العزة ليست هبة من الخارج، بل طبيعة جُبلنا عليها، وأن بطبعنا تتشكل هويتنا، وتُكتب قصتنا، وتُضاء ملامح مصيرنا. وهنا تنطلق رحلة لمحطات، تكشف وجهًا من وجوه عزتنا، فتبدأ من التضحية وتمتد إلى الوفاء والصمود والإبداع والعطاء والطموح والوحدة، وصولًا إلى المجد الذي يُتوَّج به كل ذلك، ومع الحرف الأخير تنتهي رحلة فلسفية شعورية تقول للقارئ: إن الوطن ليس زمنًا مضى، بل روحًا تمضي فينا.. المحطة الأولى: طبعنا تضحية التضحية هي البذرة الأولى التي نبت منها شجر الوطن وامتدت ظلاله على الجميع، إذ قرر المؤسس أن يجعل من جسده جسرًا، ومن يقينه نارًا تبدد الظلام، ومن حلمه بوصلةً لا تحيد، فلم تكن التضحية خبرًا في سطر، بل كانت معنى يشق الصحراء ليصنع طريقًا، وقرارًا بأن الراحة يمكن أن تُؤجل، وأن الخوف يمكن أن يُهزم إذا كان الهدف أن تقوم دولة تجمع ولا تفرق، طبعنا تضحية لأننا جئنا من أرضٍ اختبرت صبرنا وجوعنا وخوفنا، حيث تعلمنا أن كل قطرة ماء تُنال بعرق، وأن كل نخلة تحتاج يدًا تسقيها قبل أن تُطعم، ولم نُساوم على الثمن، بل دفعنا من الوقت والجهد واليقين ما يكفي كي تقف هذه البلاد على قدميها، وحين اشتدت الخطوب لم نبحث عن أعذار، بل عن أبواب ندخل منها إلى الغد، فكان دمع الأمهات وقلق الآباء وعرق الرجال والنساء هو الحبر الذي كتب الرسالة الأولى، والتضحية في فلسفتها ليست خسارة تُسجل في خانة الفقد، بل ربحًا مؤجلًا في خانة المعنى، فهي وعيٌ بأن ما نتركه خلفنا هو الثمن العادل لما سنكسبه أمامنا، وأن حياتك لا تساوي شيئًا إن لم تُعطِ حياةً لغيرك، ولهذا لم تكن تضحية جيل التأسيس حادثةً عابرة تنتهي بانتهاء الحرب الأولى، بل صارت طبعًا يجري في دمنا، نستحضره كلما داهمنا تحدٍ جديد، وكلما سألنا أنفسنا السؤال العصي: ما الذي يجعلنا نستحق هذا الوطن.. نستحقه لأننا ضحينا، ونستحق عزته لأن عزتنا كُتبت بالدمع والعرق لا بالحبر وحده، ثم إننا في كل مرة كان يمكن أن نختار الأسهل اخترنا الأصدق، وفي كل مرة كان يمكن أن ننحني قررنا أن نكون الجذع الذي يشد بقية الأغصان، وهكذا بدأت الحكاية: تضحية تحرس حلمًا، وحلمٌ يستدعي أجيالًا تواصل الطريق.. المحطة الثانية: طبعنا وفاء امتحان الروح حين تُختبر بالمواقف وتُسأل: هل ستبقى على عهدك أم تنحاز إلى المصلحة العاجلة، ومنذ البدايات الأولى كان وفاء المؤسس لأرضه وأهله هو العهد الذي قامت عليه المملكة، فلم يترك وعدًا إلا وأتمه، ولا ميثاقًا إلا وأوفاه، حتى صار الوطن نفسه وعدًا كبيرًا أوفاه الله لمن صدق، ومن ذلك العهد خرجت سيرة تُعلّمنا أن الوفاء هو طريقة للحياة، وطبعنا وفاء لأن الأوطان لا تبقى بالولاء الباهت ولا بالشعارات التي تُرفع ساعة وتُحفظ ساعات، بل تبقى حين يرد الأبناء الدين، ويحرسون ما حُرس لهم، ويكونون سندًا لمن كان سندًا لهم، فلقد أوفى الوطن لأبنائه بالأمن حين كانت الأرض من حولهم تضج بالصراعات، وأوفى لهم بالاستقرار حين كان كثيرون يبحثون عن مأوى، ومنح وأعطى وبذل وفي المقابل أوفى الأبناء له بالعمل والولاء والدم إذا لزم الأمر، وهنا لا يكون الوفاء علاقة تبادلية باردة، حيث أراها رابطة وجودية، فالوطن يمنحك هوية فتعود إليه بهويةٍ أكبر، ويعطيك جذورًا فتعيده بأجنحة، وما بين الجذور والأجنحة معنى اسمه الوفاء، ولعانا هنا نسمع لما تشرحه التوجهات الفلسفية فنخرج بقدرة الماضي على البقاء حاضرًا دون أن يتحول عبئًا، فتحمل الذاكرة لا لتثقل خطاك، بل لتضيء طريقك إلى الأمام، كلما جاء اليوم الوطني نحتفل بوفاءٍ استمر، ووفاء أرضٍ لأبنائها أن تبقى لهم وطنًا، ووفاء أبنائها لها أن تظل فيهم معنى لا يخبو، وهكذا تُحفظ العزة بالتجديد الدائم للعهد. المحطة الثالثة: طبعنا صمود قد نُختبر بالعواصف إلا أننا جبل.. نعم الجبل الذي يزداد ثباتًا كلما اشتدت الريح، ومنذ نشأ هذا الوطن وهو يواجه تحديات الطبيعة والسياسة والاقتصاد، من شح الموارد إلى وفرة الطامعين، ومع ذلك ظل واقفًا يثبت يومًا بعد يوم أن الصمود طبع متجذر في كيانه وفي قلوب أبنائه، طبعنا صمود لأننا لم نولد في أرضٍ مترفة بالخيرات، بل في صحراء تُعلّمك أن كل ظل يُنال بصبر، وأن كل طريق مفتوح كان يومًا كثبانًا تُقاوَم، إذ لم تكن الصحراء فراغًا، بل كانت معلمًا تربويًا صاغ الشخصية الجمعية، فأدركنا أن البقاء لا يُشترى، بل يُنتزع من قلب الشدة، ومن تلك القسوة خرجنا أصلب عودًا وأكثر استعدادًا للمواجهة، فالوطن لم يكن ليتأسس إلا على يقين بأن الصمود شرط العزة، الصمود عندنا حاضر يتجدد في كل أزمة، في تقلبات الاقتصاد وتحديات التقنية وتبدلات الجغرافيا السياسية، وفي كل مرة نقف ونقول كما قلنا أول مرة: لن ننكسر، لأننا اعتدنا أن نكون صامدين، وفلسفيا الصمود أعمق من النصر، لأنه يثبت أنك لم تفقد ذاتك رغم الجراح، وأنك لم تتحول إلى حجر جامد رغم الثبات، لقد تعلمنا كيف نصمد دون أن نفقد إنسانيتنا، وكيف نثبت دون أن نتجمد، وكيف نقاوم دون أن نتخلى عن الحلم، وفي اليوم الوطني حين ننظر خلفنا نرى تاريخًا كاملًا ينهض على فكرة واحدة: الصمود هو ما جعل الحلم ممكنًا، وهو ما جعل التضحية تُثمر، وهو ما منح الوفاء أرضًا يقف عليها، وطبعنا صمود لأننا كلما ظن الآخرون أننا لن نستطيع، استطعنا، وكلما حسبوا أننا سننكسر ازددنا صلابة. المحطة الرابعة: طبعنا إبداع الحياة التي لا تُبدع تتجمد وتذبل، والوطن الذي لا يبتكر يتحول إلى ظل باهت في خريطة الأمم، ومنذ البدايات الأولى كان الطريق الوحيد للتحول من الصحراء إلى الحاضرة، ومن القلة إلى الوفرة، ومن الحلم إلى الواقع، طبعنا إبداع لأننا تعلمنا أن نخلق من القليل الكثير، وأن نُحوّل القسوة إلى فرصة، وأن نجعل الندرة معملًا للخيال، فالإبداع لم يقتصر على اختراع تقني أو إنجاز معماري يلفت النظر، بل تجده في القدرة على صياغة معنى جديد للحياة، وإعادة تعريف الممكن، وتوسيع أفق المستحيل. وفي كل مرحلة كان الإبداع حاضرًا يضيء الطريق، في الزراعة وسط أرض عطشى، وفي التجارة عبر طرق شاقة، وفي التعليم حين كان الجهل هو القاعدة، وفي الصناعة حين كان الاستيراد أسهل، حتى وصلنا إلى أن نصبح صانعين للتقنية لا مستهلكين لها، ومصدرين للمعرفة لا متلقين فحسب، والفلسفة تقول إن الإبداع هو فعل الحرية الأقصى، لأن المبدع يكسر القوالب ويعيد تشكيل العالم وفق صورته الداخلية، نحن شعب آمن أن حريته تُترجم في إبداعه، فما حولنا انعكاس لروح قررت أن ترى العالم بعيون مختلفة، ومن ثم فإن اليوم الوطني لحظة إبداع جماعي، و تذكير بما فعلناه، ودعوة لأن نُكمل الطريق بطرق جديدة، ونحتفل بما أنجزناه، وبما يمكن أن نُنجزه، وأن الإبداع يقوم بالتجديد الدائم. المحطة الخامسة: طبعنا عطاء العطاء في جوهره قبل أن يكون منح الأيدي هو ما تفيض به الأرواح لتضيء حياة الآخر، ومنذ أن وُلد هذا الوطن كان العطاء جزءًا من نَسقه، حتى بات دليلاً له ودالاً عليه. طبعنا عطاء لأننا تعلمنا أن نرى في الخير قيمة تتجاوز الذات، وتشكل الصورة بأن الثروة الحقيقية ليست فيما نملك، بل فيما نُعطي، فعطاء الوطن لأبنائه لا يُقاس بالأرقام وحدها: تعليم يفتح الأفق للعقول، وصحة تحفظ الأجساد، وفرص تمتد لتشمل الأجيال، وأمن يمنح الطمأنينة ليبدع الإنسان، وهذا كله عطاء متجذر في فكرة الدولة منذ تأسيسها. لم يتوقف العطاء عند حد، بل تجاوزها إلى آفاق أبعد، حتى صار هذا البلد من أكبر الداعمين للعمل الإنساني عالميًا، يمد يده للمحتاج في أقصى الأرض كما يمدها لجاره الأقرب، وفي الحروب والمجاعات والكوارث كان الحضور السعودي عطاء لا ينتظر جزاء ولا شكرًا، بل يترجم الطبع الذي نشأنا عليه: أن تكون قويًا لتساند، وغنيًا لتغني، وآمنًا لتزرع الطمأنينة فيمن حولك، ترى الفلسفة أن العطاء ليس تضادًا مع المصلحة، بل هو مصلحة أعمق، لأن من يعطي يوسع وجوده في العالم، ويجعل لحياته صدى يتجاوز جسده، وهكذا كان الوطن، حين أعطى اتسع معناه حتى صار حاضرًا في ضمير الإنسانية. اليوم الوطني دعوة لندرك أننا ورثة طبع كريم، وأن العطاء الذي أسس هذه البلاد يجب أن يظل بوصلة لا تنحرف، فنحن نحتفل بما أعطيناه وما سنعطي، فالعزة أن نعطي ثم نعطي. المحطة السادسة: طبعنا طموح الطموح توق أبدي لأن نصبح ما لم نكنه بعد، وأن نرى في الحدود بدايات لا نهايات، وفي الواقع أرضًا خصبة لحلم يتجاوز الممكن، ومنذ البدايات كان الطموح الشعلة التي أضاءت الطريق. طبعنا طموح نراه سلمًا لما هو قادم، فالصحراء التي علمتنا الصمود زرعت فينا شغف الوصول إلى أبعد من الواحة والظل، وأن نصنع في القسوة حياة، وفي الندرة وفرة، وفي المستحيل واقعًا، حتى تشكل الطموح سمة متجذرة تتكرر في كل جيل وتكبر مع كل مرحلة. اليوم مع رؤية 2030 وما بعدها لم يعد الطموح فكرة في القلوب فقط، بل تحول إلى استراتيجية تُعيد تشكيل الوطن، لتقول للعالم: لسنا دولة عابرة، نحن مشروع حضاري ممتد، وقصة تُكتب بمداد الطموح ونتيجة تُصنع بالإصرار، وترى الفلسفة أن الطموح نداء الداخل للارتفاع، وأن تطالبك ذاتك العميقة بأن تكون أكثر مما أنت عليه، ونسمع هذا النداء في مشاريع تغير وجه الاقتصاد، وفي مدن تُبنى لتحتضن المستقبل، وفي شباب يرفعون سقف الممكن أعلى من كل سقف، ومن ثم فإن اليوم الوطني لحظة طموح، لا يكتفي باسترجاع ما مضى، بل يضعنا وجهًا لوجه مع الغد ويسأل: ماذا سنترك للأبناء، وماذا سنضيف للعالم، وعندها يكون الجواب حاضرًا: طبعنا طموح، لا نعرف الاكتفاء، ولا نقبل أن نتوقف عند نقطة، لأن عزتنا أن نرتفع، وأن نرتفع أكثر، حتى يصبح سقفنا هو السماء. المحطة السابعة: طبعنا وحدة الوحدة ليست اتفاقًا سياسيًا ولا توقيعًا على ورق، بل حالة وجودية تذوب فيها التفرقات في روح واحدة، فيصبح الكثير واحدًا دون أن يفقد تنوعه، ومنذ لحظة التأسيس كانت الوحدة المعجزة الكبرى التي ميزت هذا الوطن، إذ لم يكن جمع الشتات أمرًا سهلًا في أرض اعتادت التفرق بين قبائل ومناطق وظروف، غير أننا حين اجتمعنا لم نجتمع بالقوة وحدها، بل بروح رأت أن المصير المشترك أثمن من الانقسام، وأن المستقبل يحتاج إلى كتف واحد لا أكتاف متفرقة، وطبعنا وحدة لأننا نؤمن أن القوة لا تأتي من العدد فحسب، بل من اجتماع القلوب على معنى واحد، فالوطن حين توحد لم يلغِ الفروق، بل جعلها ألوانًا في لوحة واحدة، وصوتًا في نشيد واحد، فتحولت الصحراء الواسعة إلى بيت واحد، والقبائل الكثيرة إلى أسرة واحدة، والشعور المتناثر إلى هوية متماسكة، وترى الفلسفة أن الوحدة ليست نفيًا للتعدد، بل شكله الأسمى، لأن الاختلافات حين تذوب في معنى أكبر تصبح مصدر ثراء لا صراع، وهكذا نحن نجد في تنوع مناطقنا وثقافاتنا وقبائلنا مصدر غنى، على أننا في النهاية نلتقي على اسم واحد وعلم واحد وهوية واحدة، وفي اليوم الوطني حين نرفع العلم لا نرفع قماشة فحسب، بل نرفع كل الحكايات الصغيرة التي اندمجت في قصة واحدة، فنرفع الشمال والجنوب والشرق والغرب ليصبحوا اتجاهًا واحدًا، ونرفع الماضي والحاضر والمستقبل ليصبحوا زمنًا واحدًا، وطبعنا وحدة لأننا ندرك أن الانقسام ضعف مهما بدا مغريًا، وأن البقاء في هذا العالم لا يكون إلا بالتماسك، ولهذا لم تكن وحدتنا محطة في الماضي فقط، بل فعلًا مستمرًا يتجدد مع كل تحدٍ نواجهه، ومع كل أزمة نخرج منها أقوى، فالوحدة ليست ما ورثناه فحسب، بل ما نصونه كل يوم ونعلّمه لأبنائنا كأقدس دروس العزة. المحطة الثامنة: طبعنا مجد المجد ليس صدفة، ولا هبة تُعطى، ولا غنيمة تُقتنص في غفلة من الزمن، بل هو حصيلة مسيرة طويلة من التضحية والوفاء والصمود والإبداع والعطاء والطموح والوحدة، وهو الثمرة التي نضجت من شجرة عميقة الجذور، سقَتها الأجيال بدموعها وعرقها ودمائها، حتى أزهرت لتُعلن أن لهذا الوطن مجده الخاص الذي لا يشبه أحدًا، وطبعنا مجد لأننا لم نصنع عزتنا بالكلمات وحدها، بل بالأفعال التي كتبت التاريخ بمداد من نور، فالمجد الذي نحياه اليوم ليس فصلًا منفصلًا، بل استمرار لكل المحطات السابقة: تضحية المؤسس ورجاله، وفاء الأجيال التي تبعت، صمود الشعب أمام قسوة الطبيعة ومكر الأعداء، إبداع العقول التي رأت أبعد مما هو قائم، عطاء الأيادي التي امتدت للإنسانية، طموح الرؤية التي أعادت تشكيل المستقبل، ووحدة القلوب التي صهرت التعدد في هوية واحدة، وترى الفلسفة أن المجد هو اللحظة التي تلتقي فيها الروح بذاتها وقد تجاوزت امتحاناتها، ونحن في هذا الوطن نعيش هذه اللحظة يومًا بعد يوم، فمجدنا لا يُقاس بالقصور الشامخة ولا بالمشاريع العملاقة وحدها، بل بالمعنى الذي نسكنه، أن نكون أمة تحمل رسالتها إلى العالم، وصوتًا للأمل والاستقرار في زمن يموج بالاضطراب، وفي اليوم الوطني لا نعلن نهاية الطريق، بل نُجدّد العهد بأن المجد ليس محطة وصلناها وانتهينا، بل مسيرة نواصلها جيلًا بعد جيل، فنضيف إليها لبنة كل يوم، ونحرسها بيقينٍ لا يلين، لتظل العزة حاضرة فينا كنبض، ويظل المجد وعدًا مفتوحًا للمستقبل، لا تاجًا يُعلّق على الرف، بل شعلة تُسلَّم من يد إلى يد، ومن جيل إلى جيل، لتبقى السعودية وطنًا يصنع المجد ويورّثه كما يُورّث الأرض والاسم والهوية. رياض عبدالله الحريري