في نقاش مع أحد الأصدقاء حول إدارة المخاطر قبل اتخاذ قرار الزواج وبعده، حدثني عن تجربة زواج فاشلة سببها «النظارة الطبية». نعم النظارة الطبية هي السبب! فعند النظرة الشرعية لم تكن شريكة المستقبل ترتدي النظارة، وهناك يبدو اتفاقا ضمنيا بالإفصاح عن أي مشكلات صحية أو عيوب جسدية قبل وقوع الفأس بالرأس. الزوج هنا يرغب بتفادي المخاطر الجينية المحتملة التي يمكن أن تنتقل لنسله المرتقب أو تجنب أي طفرة جينية غير مرغوبة، وعدم الإفصاح عن مشاكل النظر قد يدخل في دائرة الاحتيال الطبي الاجتماعي. يبدو هذا الزواج بشروطه ومعاييره تطبيقا عمليا لمبادئ الانتخاب الطبيعي ومفهوم البقاء للأصلح. يعتقد هذا الزوج الكريم أن التقدم العلمي الدقيق (المنفصل عن القيمة) سيمنحه القدرة على التحكم في ذاته وواقعه ويعطيه مفاتيح «تحسين النسل» وفنون الهندسة الوراثية كي يتفادى أي تشوهات خلقية أو أمراض نفسية، فالزوجة أصبحت قابلة للتصنيف على أساس موضوعي يمكن تحديده علميا بناءً على لون البشرة وطول القامة والتحاليل الطبية، وبالتالي يمكن لعملية الزواج أن ترضخ لحسابات رشيدة وتسويغات علمية موضوعية محايدة. تظهر عمليتا الترشيد والتجريد في الزواج الحديث الذي لا يخضع لأي استجابة تلقائية أو عواطف بشرية فالإنسان يمكن أن يكبت أي انفعال غريزي داخله ويحل محله قدرا كبيرا من الانضباط والتخطيط، وهنا يدخل الزوج في دائرة وهم التحكم الكامل بالعلاقة الزوجية وإدارة أي مخاطر مرتقبة بعد الزواج. فالنظرة (الشوفة الشرعية) التي تمثل مسحا مبدئيا للأزواج المحتملين لم تعد تؤدي الغرض فأصبحت هناك حاجة لتوظيف أدوات علمية مساندة كتحليل الشخصية وفحص السجل الصحي وجلسات التعارف المتكررة التي تضمن أكبر قدر ممكن من التوافق النفسي والمعنوي. لنعترف أن العصر الحديث، بأدواته ومناهجه العلمية، يعزز النزعة العقلانية المفرطة في اختيار شريك المستقبل بناءً على توافق مالي واجتماعي ونفسي وصحي، بمعنى أن الزواج دخل حالة أشبه بالداروينية الاجتماعية، وبالتالي سيطر على الأزواج مفهوم «إدارة المخاطر» فكلا الطرفين يريد علاقة بلا احتمالات فشل فيبالغ في الفحص والتحليل والاستشارة والمقارنة والسؤال عن الزوج المستقبلي بين جيرانه وأصدقائه في الوظيفة. وبسبب المبالغة في الاحتياط والتحليل قد يتأخر مشروع الزواج لسنوات أطول. فالأزواج المحتملون أصبحوا يطبقون أدوات مثل: جداول تقييم وفحوص نفسية وجينية وتطبيقات تحليل للشخصية ونصائح مدربي علاقات أسرية وزوجية، وكل هذا يعزز الوهم بأننا نستطيع السيطرة على نتائج العلاقة كما نسيطر على نتائج مشروع هندسي. ارتبطت جاذبية المرأة بقيم السوق (الراتب، المكانة الاجتماعية، التعليم) وتحولت إلى منتج يجب أن يحقق معايير جودة لا إنسانا له روح وتاريخ وطباع بشرية يتخللها النقص والعيوب، والنتيجة الاجتماعية المتوقعة لتسلل قيم السوق للعلاقات العاطفية: تأخر سن الزواج وخوف متزايد من اتخاذ القرار بالزواج وشعور أن الشريك يجب أن يكون نسخة مثالية. أصبح الإنسان يعيش وهم التحكم الكامل بالعلاقة وإدارة أي مخاطر محتملة منها، وهذا الوهم ينكسر عند أول أزمة زوجية غير متوقعة كإصابة أحد الزوجين بمرض مفاجئ أو الوقوع في ضائقة مالية غير متوقعة أو فقدان للوظيفة أو التعرض لأزمة نفسية عارضة لأي سبب من الأسباب. العلاقات الإنسانية بطبيعتها معقدة ومتغيرة ولا يمكن اختزالها في مؤشرات وبيانات، وكل ما تحتاجه هو الالتزام الأخلاقي والاستعداد للتضحية وتحمل المسؤولية، وكلها عناصر لا يمكن لأي خوارزمية أو تحاليل طبية أو جلسات تعارف التنبؤ بها. العلاقة الإنسانية لا تدوم بالمنطق فقط، فهي تحتاج لمساحة للاختلاف والتلقائية والضعف الإنساني. شئنا أم أبينا. الحياة الزوجية بطبيعتها قائمة على مبدأ «عدم اليقين». الإنسان بطبيعته غير كامل ولا يوجد إنسان بلا عيوب والعلاقة بين الجنسين تتطلب تفهم عيوبنا البشرية لا التعامل معها وفق مبادئ «إدارة المخاطر»، ومنها يحول الإنسان نفسه إلى كائن لا يخطئ وإلى مهندس لمستقبله وعواطفه وللناس من حوله.