الطفل قبل أن يتعلم كيف يُجيب، يتقن كيف يسأل، كيف يُزعزع يقين العالم من حوله ببراءة مدهشة وبمنطق فطري لم تفسده بعد القوالب الجاهزة، الفيلسوف الصغير ليس مَن يملك المعارف الكثيرة، بل هو من يمتلك فضولاً لا ينتهي، ومن هنا تبدأ الحكاية حكاية الإنسان الباحث عن المعنى منذ أول سؤال خرج من فم طفل تجاه سماء غريبة أو موت غير مفهوم أو كائن لا يُرى، ذلك السؤال الأول الذي لم يكن يعرف أنه فلسفي، هو ربما يكون أصل الوعي وأصل المعرفة أيضاً. حين يتأمل أحدنا طفلاً في عامه الثالث أو الرابع، ويرى اتساع عينيه أمام مشهد المطر، أو سماعه لأول مرة عن الموت، هذا الطفل لا يعرف الميتافيزيقا كمصطلح، لكنه يعيشها شعوراً وتساؤلاً حقيقياً، الطفل هنا لا يقلد بل يبدع؛ لا يكرّر ما سمع بل يصنع سؤالاً جديداً عن عالم لم يفهمه بعد، وهنا تكمن عبقرية السؤال الأول تلك الشرارة التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات. في العصور القديمة كانت المعلومة كنزاً نادراً والوصول إليها يتطلب زمناً وجهداً وسفراً وربما حياة كاملة، أما اليوم فقد انقلب المشهد رأساً على عقب، فالطفل الذي بالكاد يتقن القراءة يستطيع أن يسأل جهازاً صغيراً فيجيب عليه في لحظة، إنه الذكاء الاصطناعي والإنترنت والفضاءات الرقمية التي جعلت من المعرفة كائناً حاضراً في جيب كل إنسان. الآن ليست التربية الحقيقية أن نملأ عقل الطفل بالمعلومات، بل أن نمنحه أدوات الفهم وحرية التساؤل، فالطفل الذي يتعلّم أن يسأل يتعلّم أن يفكر، ولذلك فإن دور الوالدين والمربين لا يقتصر على الإجابة بل على تغذية السؤال نفسه، حين يسأل الطفل: " لماذا نموت؟ "، فإن الرد البسيط أو الجاهز لا يشبع فضوله، بل يحتاج إلى حوار، إلى استماع صادق، إلى مساحة أمان تسمح له بأن يعبّر عن خوفه، وأن يكتشف المعنى بنفسه، وعلى الأهل ألا يخافوا من الأسئلة الكبيرة؛ لأن كل سؤال صعب هو بذرة وعي نادرة، كما أن الرد المثالي ليس دائماً في المعلومة، بل في الصبر على التساؤل. الأطفال الذين يُمنحون الحرية في التساؤل يصبحون أكثر قدرة على التفكير النقدي، وأكثر حساسية تجاه الجمال وأكثر وعياً بالآخرين، إنهم يتعلمون أن الحقيقة ليست جاهزة، بل تُبنى بالبحث والتجربة، وهنا تلتقي التربية بالفلسفة وكلاهما يهدف إلى إنضاج الإنسان من الداخل. وعلى الوالدين أن يُعاملوا طفلهم ككائن مفكر لا كمتلقٍ للتعليمات، وحين يطرح أسئلته الصعبة لا ينبغي قمعه أو السخرية منه، بل احتضانه وتشجيعه على الاستمرار، فكل سؤال كبير يخفي وراءه حاجة عاطفية إلى الأمان أو الفهم أو التواصل، وينبغي أن نُجيب على قدر نضجه، لا أن نُنزِل عليه أجوبة الكبار التي قد تقتله غموضاً، ولعل الأفضل أن نحاور الطفل على مستواه العمري بلغة بسيطة ولكن باحترام كامل لعقله، وأن البحث عن الحقيقة رحلة مشتركة، فحين يرى الطفل أن والده لا يخجل من القول: لا أعلم يا بني فلنبحث معاً، يتعلم أن الجهل ليس عيباً بل بداية للمعرفة. ومن نافلة القول: فإن الطفل الفيلسوف هو المرآة التي تذكّرنا بأن المعرفة لا تبدأ من الكتب، بل من نظرة حائرة ومن دهشة خالصة أمام الوجود، ولقد صار عالمنا اليوم غارقاً في المعلومات، لكنه بحاجة إلى استعادة دهشة السؤال الأول، تلك العبقرية الطفولية التي جعلت الإنسان يوماً ما يرفع رأسه نحو السماء ويتساءل: لماذا؟، وربما تكون مهمتنا التربوية الكبرى أن نحمي في أطفالنا هذه الشعلة الصغيرة؛ لأن العالم الذي يخلو من الأسئلة سيخلو من المعنى أيضاً.