كلُّ أمةٍ تحفظ مجدها في ذاكرة، وتروي حكايتها بصوتٍ يعرفها... وهكذا يفعل الإعلام السعودي؛ يسكن بين الصورة والكلمة، بين الحدث والتاريخ، ليعيد رسم ملامح وطنٍ وُلد من الصحراء وامتدّ إلى العالم. ليس مجرد وسيلةٍ تنقل الخبر، بل ذاكرةٌ تنبض بالحياة، وصوتٌ يروي للأجيال قصة الإنسان السعودي الذي صنع تاريخه بيده، وحمل تراثه في وعيه، ليبقى الحاضر شاهدًا على عمق الجذور وامتداد الحلم. منذ تأسيس الدولة السعودية الحديثة أدركت القيادة أن الإعلام ليس ترفًا، بل ركنٌ من أركان بناء الدولة وترسيخ الوعي الوطني. فكانت الإذاعة أولى النوافذ التي خرج منها صوت الوطن يروي للأجيال قصص التوحيد والنهضة، ثم جاء التليفزيون ليضيف بعدًا بصريًا للذاكرة الوطنية، يوثّق مراحل التحوّل العمراني والاجتماعي في المدن والقرى السعودية. ومع تطوّر الوسائل الإعلامية، لم يعد دوره يقتصر على النقل أو التسجيل، بل أصبح فاعلًا في صناعة الوعي التاريخي وربط الماضي بالحاضر، عبر رؤية وطنية تبرز عمق الهوية السعودية وتنوّع مكوّناتها الثقافية. وفي هذا الإطار، برزت هيئة الإذاعة والتليفزيون بوصفها حجر الزاوية في التوثيق الإعلامي الوطني، فقد أنتجت برامج ووثائقيات تُضيء جوانب من التاريخ والتراث، وتعرض الحياة القديمة في نجد والحجاز والجنوب والشمال والشرق، مستعرضة القصص الإنسانية التي صنعت النسيج الاجتماعي والثقافي للسعوديين. أما وكالة الأنباء السعودية (واس) فقد تجاوزت دورها الإخباري لتصبح ذاكرة بصرية للوطن، من خلال منصّتها للصور التاريخية التي توثّق المناسبات الوطنية الكبرى، كاليوم الوطني ويوم التأسيس، وتسلّط الضوء على القرى التراثية والمشاريع الأثرية في العلا والدرعية والأحساء، مقدّمة للعالم صورة متكاملة عن المملكة بوصفها أرضًا للحضارات ومركزًا للتاريخ الإنساني. ولم تكن الصحافة السعودية بعيدة عن هذا الدور الريادي، إذ أسهمت لعقودٍ طويلة في تخصيص مساحاتٍ للتراث والهوية، واحتضنت أقلام المؤرخين والباحثين لتوثيق المرويات الشعبية والأحداث المحلية التي شكّلت الذاكرة الوطنية. ومع انطلاق القناة الثقافية السعودية بحلّتها الجديدة، اتّسع الضوء على التاريخ والتراث ليصبحا مادةً يومية على الشاشة، من خلال برامج نوعية ووثائقيات ميدانية تُبرز العمق الحضاري للجزيرة العربية، وتعيد تعريف المملكة كأرضٍ للحضارات القديمة وموطنٍ للإنسان الأول وملتقى للتفاعل الإنساني عبر القرون. ولا يمكن الحديث عن الإعلام دون الإشارة إلى الشراكة الوثيقة بينه وبين المؤسسات الثقافية المتخصصة مثل دارة الملك عبدالعزيز وهيئة التراث وهيئة المتاحف، التي قدّمت كنوزًا معرفية من الوثائق والمخطوطات والصور التاريخية، وأسهمت في إنتاج محتوى إعلامي رصين يعيد ربط الماضي بالحاضر. فقد أطلقت «الدارة» مبادرات رقمية رائدة مثل موسوعة الدرعية، بينما تعمل «هيئة التراث» على نقل الاكتشافات الأثرية الحديثة في تيماء والعلا وخيبر إلى المنصات الإعلامية العالمية، مؤكدة أن المملكة ليست حديثة عهدٍ بالحضارة، بل امتدادٌ لإرثٍ إنسانيٍ ضاربٍ في عمق التاريخ. ومع صعود الإعلام الرقمي، دخلت المملكة مرحلة جديدة من إحياء الذاكرة الوطنية عبر المنصات الحديثة. فقد أصبحت المبادرات الرقمية مثل «روح السعودية (Visit Saudi)» وحملات الهوية الوطنية السنوية جسورًا تفاعلية تربط الأجيال الجديدة بتاريخ بلادهم بلغةٍ قريبةٍ منهم، تجمع بين التوثيق والجمال البصري. كما قدّم عدد من المصورين والرحالة السعوديين محتوى مدهشًا يوثّق القرى التاريخية والقصور القديمة والمواقع المسجّلة في قائمة اليونسكو، في تفاعلٍ حيّ بين الإعلام الفردي والمؤسسي، جعل من المواطن جزءًا من رواية الوطن وذاكرته الجمعية. ولعلّ من أبرز أدوار الإعلام السعودي أيضًا تصحيح المفاهيم التاريخية التي رسّخها بعض المستشرقين عن الجزيرة العربية. فقد واجهت البرامج والمقالات السعودية تلك السرديات المنحازة، وأعادت قراءة تاريخ المنطقة من منظورٍ وطنيٍ علمي، يؤكد أن الجزيرة كانت مهدًا للحضارات المبكرة، وأن إنسانها شارك في تشكيل طرق التجارة والثقافة والدين في العالم القديم. وبفضل الجهود الإعلامية الواعية تغيّرت الصورة الذهنية عن المملكة في الخارج، وأصبحت تُقدَّم اليوم للعالم بوصفها مركزًا حضاريًا وإنسانيًا نابضًا بالحياة. وضمن رؤية المملكة 2030، أُعيد تعريف الإعلام بوصفه شريكًا في التنمية الثقافية وصناعة الوعي الوطني، حيث تعمل وزارة الإعلام وهيئة الإذاعة والتلفزيون ومركز الاتصال والإعلام الجديد على إنتاج محتوى يواكب التحولات ويُظهر المملكة كدولةٍ تمتلك تاريخًا عريقًا ووجهًا حضاريًا متجددًا. وقد أطلقت وزارة الإعلام مبادرة «كنوز السعودية» التي توثّق الثراء الثقافي الوطني وتنتج أفلامًا وبرامج نوعية تُظهر الهوية السعودية للعالم. الإعلام السعودي اليوم ليس مجرّد ناقلٍ للأحداث، بل صانعٌ للوعي وموثّقٌ للذاكرة، يجمع الماضي بالحاضر في سردية وطنٍ يتجدد. فحين يرى المواطن قريته القديمة على شاشة وطنية، أو يسمع عن بطولات أجداده في وثائقيٍ متقن، يتجذّر الانتماء في وجدانه، ويصبح التاريخ حيًا في تفاصيل يومه. فالإعلام هنا لا يقدّم «خبرًا»، بل يصنع «ذاكرةً» تُعيد تعريف الوطن في وعي أبنائه. وهكذا، يظل الإعلام السعودي في جوهر رسالته ذاكرة وطن وصوت تراثه، يروي الحكاية بلغة الحاضر ليصون الماضي للأجيال القادمة، ويؤكد أن الأمم لا تُقاس بما تملك من ثروات، بل بما تحفظه من ذاكرة، وتورّثه من إرثٍ وإنسانٍ وحضارة. «الإعلام ليس مرآةً للماضي فحسب، بل بوابةٌ تعبر منها الأمم إلى الذاكرة والخلود».