من جنوب الجزيرة العربية، من منبعٍ مهمٍّ للحضارات، تصعد اليوم صرخة التاريخ: من يوقف العبث بالآثار؟. ففي أرضٍ أنجبت سبأ، ومعين، وقتبان، وأوسان، وحِمير، وفي مدنٍ كانت من أوائل أبجديات المجد الإنساني، من مأرب إلى صنعاء، ظهرت جماعة الحوثي العبثية لتقلب الموازين، وتعبث بميراثٍ حضاري هو من أهم ما تملكه الأمة العربية من آثارٍ ضاربةٍ في القِدم. منذ أن وضعت هذه الجماعة يدها على السلطة في صنعاء، وهي تمارس تصرفاتٍ صبيانيةً غير محسوبة، تُشعل الحرائق السياسية، وتستفزّ دولًا أعظم منها شأنًا وقوة، ثم تختبئ خلف المدنيين والمواقع الأثرية كدرعٍ للجبن والخداع، يرمون صاروخًا عشوائيًا هنا أو هناك من باب الاستعراض الصبياني -حتى على سفن أمريكا وإسرائيل، التي لا تربطهم بهما أي حدودٍ سياسية- فيأتي الردّ عنيفًا، مزلزلًا، فيقع الخراب لا على رؤوسهم وحدهم، بل على المدن العريقة التي تحمل ذاكرة آلاف السنين من الحضارة والإنسانية. إنها مغامرات مراهقةٍ سياسية، لا يدرك أصحابها أن كل حجرٍ في صنعاء أو مأرب أو ذمار أو شبام هو شاهدٌ على عظمة أممٍ سبقتهم بقرون، وأنهم اليوم يهدمون بأيديهم ما لم تتجرأ حروب العصور القديمة أن تمسَّه بسوء. لقد أصبحت صنعاء، درة الجنوب العربي ومتحف التاريخ الحي، هدفًا مباشرًا للدمار بفعل تهوّر جماعةٍ لا تفهم معنى الإرث، ولا تقدّر قيمة المكان. فالمواقع الأثرية التي كانت تُدرَّس في كتب التاريخ وتُزار من البعثات العلمية والأثرية، باتت اليوم تُستخدم كمخازن سلاح ومواقع إطلاق للصواريخ ومخابئ للجبناء، لتُقصف بعد ذلك فتتحول إلى ركام، وتُدفن تحتها حضارة من أهم حضارات العرب الأولى. ولم يتوقف العبث عند القصف، بل امتدّ إلى النهب المنظّم للآثار القديمة، التي سُرقت من المتاحف والمخازن، وبيعت في مزاداتٍ عالمية، لتُعرض قطع سبأ وحِمير ومعين وقتبان في عواصم بعيدة، بينما تبكي أرض الجنوب العربي على هويتها الممزقة. وهنا يعتصر القلب ألمًا وحسرةً حين نرى هذا الإرث الحضاري العظيم يُدمَّر أمام أعين العالم، وتُنهب كنوزه، ويُتاجر بها في المزادات العلنية والسوق السوداء، وكأن جزءًا من التاريخ العربي يُباع قطعةً قطعةً لمن يدفع أكثر، في مشهدٍ مؤلمٍ يندى له جبين الإنسانية. يا للعجب! كيف تغيب الحكمة عن قومٍ كانت أرضهم أرض البنيان والعمران؟، وكيف يُستبدل مجد التاريخ بجهل الحاضر؟. إن العبث الحوثي لم يدمّر فقط حجارةً ومعابد، بل دمّر صورة الإنسان العربي الأول، في الجنوب الذي صدّر الحضارة والعقل والتجارة إلى كل الدنيا. إن العالمَ مطالبٌ اليوم بأن ينهض لحماية هذه البقعة الحضارية المهمة، لا من عدوٍّ خارجيٍّ فحسب، بل من جهلٍ داخليٍّ يلتهم ماضي الأمة وحاضرها.. فكل قذيفةٍ تسقط في صنعاء ليست مجرد انفجار، بل طعنةٌ في قلب الحضارة العربية. من يوقف العبث؟ من يوقف هذا السقوط في مستنقع الجهل.. من يرفع راية الوعي في وجه عصابةٍ جعلت من أرض الحضارة ملعبًا للحماقة؟. إن الجنوب العربي، منبعُ حضارةٍ يستحق أن يُنقذ من عبث الجهل، وأن يُعاد إليه صوته القديم، صوت سبأ التي علّمت الناس معنى المجد، لا معنى الخراب، ومعنى البناء لا معنى الهدم، ومعنى الأصالة لا معنى الحماقة. اللهم احفظ بلدنا من كل مكروه، وبلادَ إخوتنا العرب والمسلمين كافة.