على أرض اليمن، ومن هذا الركن المهم من جزيرة العرب، قامت أولى الحضارات العربية وأقدم الحضارات الإنسانية، إذ يتفق معظم المؤرخين على أن الألف الأول قبل الميلاد قد شهد في جنوب الجزيرة العربية واحدة من أعمق الحضارات الإنسانية بلغت أوجها في عهد الملكة بلقيس صاحبة أول نظام ديمقراطي في العالم، إذ جاء ذكر قصتها في القرآن الكريم، ولعظمة ازدهارها ورخاء العيش الذي وفرته حضارتها لشعبها والشعوب المجاورة، أطلقت عليها الأمم الأخرى (العربية السعيدة) تارة (واليمن الخضراء) تارة أخرى. ومن أشهر الحضارات التي قامت على أرض اليمن معين وسبأ وحمير وقتبان وحضرموت وغيرها، وكلها كانت حضارات متميزة في عطائها ورقيها الذي شهدت به الآثار، والنقوش والدراسات القديمة، وقد وصف القرآن الكريم جنات قوم سبأ وما كان بها من نعيم. وبعد انهيار سد مأرب الشهير، ضاقت الأرض على أهلها بما رحبت، خرجت قبائل اليمن لتستقر في مواطن الجزيرة العربية المتعددة، وتصل إلى بلاد الرافدين، بل إن من المؤرخين من يذهب إلى القول إلى أن جذور الفراعنة في مصر تعود إلى قوم عاد في حضرموت باليمن، وهو أمر لو كان صحيحاً لبطلت به دعاوى الفرعونية في مصر الذين يطالبون مصر بالانسلاخ عن عروبتها!! واليمنيون علماء وقضاء وساسة وقادة جيوش يملؤون صحائف التاريخ الإسلامي عبر العصور يعجز القلم عن سردهم، وبعضهم يتوقف التاريخ ملياً عندهم مثل القائد السمح بن مالك الخولاني فاتح قرطبة ومؤسس الإمارة فيها. وإذا كانت اليمن قبل الإسلام قد اشتهرت بحضاراتها التي أقامتها على أرضها، وصدرت العروبة إلى الأوطان كلها بعد انهيار رمز حضارتها سد مأرب، فإنها بعد الإسلام لم تنحصر حضارتها داخل أرضها، بل أرسلت رجالها يحملون رسالة هذا الدين يذودون عنه، ينشرون نوره عقيدةً، وعروبته لغةً أو يموتون دونه، ومن الملفت للنظر أن القبائل اليمنية التي كانت تشكل مادة أساسية لجيوش الفتوح الإسلامية، كانت لا تعود إلى أوطانها بعد الفتح، بل تبقى في تلك البلاد وتتزاوج مع شعوبها، وتصنع لها جذورها العربية التي يفخر بها أبناء تلك البلدان العربية اليوم في مصر والشام والعراق والمغرب العربي. وقد توحدت هذه القبائل اليمنية مع بقية قبائل الجزيرة العربية التي تعود جذور كثير منها إلى أصول يمنية، في وحدة شعورية تجاوزت وحدة اللغة والأصل والتاريخ والجغرافية، إلى (وحدة العقيدة)، إذ لم يستطع عامل من تلك العوامل من دون العقيدة أن يجمع شتات العرب ويوحدهم في جزيرتهم قبل الإسلام، إذ إن العرب كما يقول ابن خلدون: أمة لا تتحد إلا بدين ولا تجتمع إلا على عقيدة. وهكذا اجتمعت قبائل جزيرة العرب على عقيدة الإسلام، ويتم انفصالها وتفرقها بمقدار ابتعادها عن هذه العقيدة. فلا عجب أن تجتمع - اليوم وفي العصور الحديثة - المملكة العربية السعودية واليمن وتقيم اتفاقاتها على أساس هذه العقيدة، وعلى نهجها تجد أن لها استراتيجية واحدة لا تتغير منذ جمعها الله قلباً واحداً في هذا الدين، ومن هنا لا يمكن فصل عوامل الاستراتيجية عن عامل العقيدة الواحدة في موطن العقيدة وأصل العروبة.