هناك جملة متداولة تقول: "من تكلم في غير فَنّه أتى بالعجائب"، وهذا قول مأثور للإمام ابن حجر العسقلاني؛ ومعناه أن الشخص الذي يتكلم في غير تخصصه، سيأتي بكلام خاطئ، وغريب، ومضحك، وهي عبارة تحمل في طياتها تحذيراً لأصحاب العقول بضرورة الالتزام بالتخصص حتى لا يقعوا في الخطأ والحرج، وقد قال ابن حجر هذه العبارة العميقة وهو لم يشاهد ما يحدث اليوم من (فتاوى مُعلّبة) في شتى المجالات. لقد ساعدت منصات التواصل الاجتماعي على أن يكون لكل شخص ساحة يتكلم فيها بما يشاء، والمشكلة تكمن عندما يتكلم أي شخص في تخصصات مهنية وعلمية وطبية وشرعية وهو لا يمتلك الأدوات الصحيحة ولا الخلفية العلمية المتخصصة في ذلك المجال، مما يؤدي إلى لغط وتضليل وإيصال معلومات مغلوطة، والأمثلة كثيرة. لقد وجدت غير المختص يتكلم في (شؤون الأسرة والتربية)، وغير المختص يتكلم في (علم النفس) وأنواع السلوكيات وعلاج الاضطرابات، وغير المختص يتكلم في (الطب وعلم الأمراض)، وكيفية تشخيصها وعلاجها، وغير المختص يُبدي الرأي القانوني كأنه محامٍ؛ بل الأدهى والأمرّ، أن هناك غير المختص يوزع (الفتاوى الشرعية) ويفسر الأحلام! والحقيقة أن كل من هذه المجالات تعتبر تخصصاً ودراسة وعلماً، ويعكف صاحبها في أكناف الجامعات، وبين أروقة الكليات يركب أمواج النظريات المنهجية، ويتلاطم مع بحور الأبحاث العلمية لسنوات حتى يتخصص في مجال دقيق، ليس ذلك فحسب؛ بل هناك متطلب نظامي للتدريب والتأهيل بعد سنوات الجامعة، حتى يحصل صاحب ذلك التخصص على تصريح من الجهة المُشرفة ليكون مؤهلاً ومرخصاً للعمل فيه. إن كل من يتكلم في الطب وهو ليس بطبيب قد يكون سبباً مباشراً في إلحاق الأذى، وتفاقم الأمراض، والتلاعب بصحة الأبرياء، وكذلك الحال فيمن يبدي الرأي في العلاقات الأسرية والاجتماعية، وهو غير مؤهل؛ لأنه يوجّه الزوجين بكلام خاطئ، ومنهج فاسد غير سوي، وفي الغالب تكون آراؤه منبعثة من تجربة شخصية مر بها، ويحاول نقل نتائجها للآخرين؛ خاصة إذا كانت تجربة سلبية فيتأثر بها المستمع سلباً، ولا سيما المتطفلين على المحاماة؛ فهناك من يعطيك الرأي القانوني وهو ليس بأهل اختصاص مما يؤذي ويضر من يتلقفه. وهنا سؤال جوهري: ما هي النتيجة التي تتوقعها من شخص غير مختص يتكلم في مجالات مهنية وعلمية لا يفقه فيها شيئاً غير الخرافات والهذيان والدجل والهرطقة والهراء والسخف والحكايات الخيالية والقصص الباطلة والتافهة؟! لقد سنّت الجهات الرسمية قوانين ولوائح ومعايير تنظم عمل كل مختص، حتى يصبح مؤهلاً بالعلم والمعرفة، مما قطع الطريق على هؤلاء المتطفلين فتمنعهم من الحديث في غير مجالاتهم، بل ووضعت عقوبات وجزاءات لمن ينتحل فيهم صفة مهنية. ولك أن تتخيل أن الأمر قد يصل إلى الحق في رفع دعوى (تعويض) على من يتكلم في غير اختصاصه وكان سبباً مباشراً في إلحاق أذى أو ضرر لشخص بعينه (بعد إثبات العلاقة السبيبة)، ومثال ذلك الشخص الذي يحرض المرأة على زوجها، فيظهر في وسائل التواصل الاجتماعي وهو يدعو المرأة بألّا تُضحي من أجل أسرتها وأولادها وزوجها وأن تكون لها أولويات أخرى بعيدة عن بيتها، أو أن ينصح الزوجة بعدم سماع رأي الزوج في مسألة متعلقة ببيت الزوجية أو غيرها من النصائح العجيبة الغربية التي أتت بالمصائب. وقد وقفت شخصياً على عدة قضايا كانت فيها الزوجة ضحية آراء صادرة من غير مختصين تسببوا في القضاء على العلاقات الزوجية التي كانت مستقرة بسبب نصائحهم. هناك حكمة جميلة منسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تقول: "إياك والكلام فيما لا تعرف طريقته ولا تعلم حقيقته"، وهنا لا بد لنا من وقفة عميقة، وهي أن اللوم يقع على كل شخص يستمع لهؤلاء غير المختصين ويأخذ بآرائهم، فنصيحتي ألّا تقبل رأياً من غير مؤهل، لأن تجاربهم الشخصية ليست مقياساً معتبراً، وعليك بأرباب العلم وأهل الاختصاص دون غيرهم من المتطفلين ولا تكن لقمة سائغة لهم فتندم.