من المبهج والداعي للتفاؤل، أننا في اليوم العالمي للغة العربية نوقن تماماً بأننا لا نقف أمام لغة مُتعَبة أنهكها الزمن؛ بل أمام لغة نابضة، وحيّة، بها من وفور الجزالة ما يجعلها قوية، صامدة، وعصيّة على الضعف والاندثار. وما بقاؤها أبيّة عصيّة على السكون والركون في حيّز الجمود إلاّ دليلاً دامغاً يدحض عجزها عن التجدُّد، فقد أثبتت هذه اللغة عبر قرون عدّة أنها مطواعة، ولها قدرة عظيمة على التكيُّف، والبقاء. فالعربية التي حَمَلَتْ الوحْي، واحتضنت الفلسفة، ودوّنت العِلم، لا تزال قادرة على أن تكون لغة الحاضر كما كانت لغة الحضارة. ومع هذا فلا يمكن إغفال ما تجابهه هذه اللغة من تحدّيات كبيرة، في عالَم تتسارع فيه المعرفة، وتُعاد صياغة المعنى بلغات أخرى، الأمر الذي يضع اللغة العربية أمام تحدٍّ وجودي هائل وعميق، وهو ما انعكس على حضورها، وساهم في تراجعها، وفي تقلُّص مساحات حضورها كتعاطٍ أو استخدام في مناحٍ شتّى، ليس أقلها مزاحمة لغات أخرى لها في مواقع مختلفة، وهو ما يجعل تزامن هذا اليوم مع الاحتفاء بها فرصة للمراجعة، والعمل على تعظيم حضورها، لتكون كما كانت مُنتِجة للفكر، والعلم، والسؤال النقدي. ومن الضرورة عدم الوقوف عند هذا اليوم للغة بوصفه احتفالاً واحتفاءً رمزيّاً؛ بل نريده أن يكون هذا اليوم «لحظة تَنَبُّهْ»؛ فالعربية بممكناتها العظيمة، وذخائرها النفيسة، تحمل إرثاً حضارياً ثقيلاً في التاريخ، ولا يليق بها في يومها العالمي أن يُكتفى بالإعجاب بها عند حدودها البلاغية؛ فالعربية تحتاج -إزاء كل هذه التحديات- إلى مشروع يعيد لها حضورها في العقل، لا في الذاكرة فقط. وقد أدركت المملكة العربية السعودية، باعتبارها سليلة هذه اللغة، وحاضنتها، وموطن بزوغها، والمحتفية بها دوماً، قد أدركت هذا التحدي مبكّراً؛ فتعاطت مع اللغة العربية بوصفها قضية سيادة ثقافية ومعرفية، لا مجرّد مكوّن تراثي. وقد تُرجم هذا الاحتفاء والتعامل مع العربية وفق ما تقدّم؛ وجاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية ليجسّد هذا الفهم، وليكون المجمع مؤسسة تنظر إلى اللغة باعتبارها كائناً حيّاً، يُنمّى بالحب، ويُفعّل بالتقنية،، ويُحمى بالرؤية. إن رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -أيده الله- للعربية نابع من إدراك عميق وعظيم بأنّ فقدان اللغة هو فقدان المعنى، وذوبان الهوية، وأنّ الأمم التي لا تحرس وتصون لغتها، مُؤهّلة لطوفان من الضياع، وشتات الوعي، وفقدان بوصلة التقدم الحضاري والإنساني. ومن المهم التأكيد على أننا كعرب ومسلمين، مع تعاقب أعوام الاحتفاء بهذه اللغة العظيمة بحاجة إلى التعاطي مع هذه اللغة كلغة تفكير وإنتاج، لا لغة حنين وارتداد للماضي فقط بلا عطاء حقيقي مثمر، العربية هي أبرز أدواته الحضارية المذهلة.