حين بدأت ثورة الحرية في سوريا، التي قادها وجسدها شباب متطلع نحو غد سوري أفضل وأجمل، حينها رفع مؤيدو النظام وأنصاره شعار مواجهة غريب وقح وغبيّ، والأخطر أنه مرعب وكارثي؛ فقد رفعوا شعار: «الأسد أو نحرق البلد»؛ ليكون شعار مواجهة هذا الحراك الشبابي السلمي. لقد مُلئت به الجدران وجنبات الشوارع، وأُثقلت به كواهل الأرصفة والأزقة والحارات، ليمسي غولًا يقض سكينة المدن السورية وينذرها برعب مستطير لا تعرف بعده أمانًا ولا تقر لها عين الطمأنينة. شعار يحمل في حروفه وحركاته وسكناته نذر الطائفية ونتانة الكراهية وسَعَرَ التمزيق الاجتماعي المحرق. عمّت المظاهرات الشبابية أرجاء المحافظات السورية كلها، بمدنها وبلداتها وأريافها، حتى صارت أشبه بعرس وطني جامع، تتوزع مدن الدولة معازيمه وتتقاسم شوارعها أفراحه وتتفنّن ساحاتها في مظاهر احتفائه وفنون احتفاله. وصارت أيام الجُمَع مهوى قلوب عشاق الحرية وطلابها وخاطبيها؛ إذ صارت الموعد الأسبوعي المنتظر لتجدد عرس الوطن أو أعراس المدن السورية المفتونة بسحر معشوقة السوريين وحسنها الفتّان وجمالها الآخاذ، «عروس المجد»: سوريا الغد الأفضل، حيث يخرج الناس بعد صلاة الجمعة ليعمروا ساحات الوطن وشوارعه بالمظاهرات المنادية بالحرية السياسية والحياة الديمقراطية، والإصلاح الاقتصادي، والتغيير البنيوي لنظام إدارة البلد وشكل سلطته، وإعادة هيكلة مؤسساته، وتفعيل سلطة القانون وصيانته من أشكال الفساد وصروف العطب وضروب التعطيل. ومع مرور الأيام لم تعد المظاهرات تقتصر على أيام الجمع، وأمست هناك مظاهرات ليلية على مدار سبعة أيام الأسبوع. لكن كثيرين ممن كانت لهم مواقف معارضة للنظام توجسوا خيفة من هذا الحراك، وقرأوا فيه صبغة دينية أصولية، وتنبأوا له بمآلات راديكالية وخواتيم بعيدة عن رؤى الحرية والديمقراطية التي يلهج بها شباب المظاهرات وتهتف بها جموع الحشود المترامية على أرجاء هذا الوطن. هذا التوجس وما تبعه من عدم تأييد وعزوف واعتزال، هو الآخر ألقى بين يدي الراهن السوري وتجاذباته السياسية وجدله الإعلامي معطًى طائفيًا آخر يضاف إلى ما سبقه من معطيات ومؤشرات، ولا سيما أن أبرز وجوه هذا التوجس ممن حردوا عن تأييده أو الدخول فيه ومشاركته، كانوا من طوائف ما يسمى (بالأقليات السورية)، في حين كان الحراك مقصورًا في جله على الطائفة السنية (عربًا وكردًا) أو هو يبدو هكذا. ويأتي في أعلى قائمة الممتنعين عن تأييده الشاعر والناقد ذائع الصيت «أدونيس». موقف جعل المعارضة تتهمه بالنكوص الأيديولوجي والمنزع الطائفي المخذِّل والمخيب للآمال، وكيف يصدر من رائد الحداثة العربية وعَلَمها الأشهر، الذي كانت تعول عليه أجيال الحداثة ومتبنوها في استلهام فكره والاهتداء بمشروعه لبلوغ فجر حداثة عربية مأمولة ومنتظرة، حداثة تحمل معها خلاص الأمة الحضاري ونهوضها الفكري. وعلى الرغم من كل ما تعرض له أدونيس من سهام الانتقاد والتثليب، لكنه ظل على موقفه ورأيه مما يجري وسيجري. وكأنهما، معارضة وأدونيس ومَن حذا حذوه، طرفا رهان راهنا على الأيام، لتبين: أيٌّ أخطأ الرهانَ وأيٌّ لم يخطئ رهانُه: اندفاعَهُ ومباركتَه؟ أم حذرَهُ وتحذيرَهُ؟ وبات أدونيس خائن حداثته ومبادئه في عيون كثيرين، وبقي عدو ثوابت الأمة عند خصومه الأولين الذين وجدوا في موقفه من الثورة السورية يقينًا آخر يهيدهم إياه ويرميه بين إياديهم. ورغم كل تلك الحملات والضغوط في الأوساط المحلية والعربية والدولية، التي مورست ضده، وشهرت به، ظل هو على رأيه وموقفه، راميًا خلف ظهره كل الإغراءات. حتى (نوبل) كانت ضمن احتمالات وجودها خلف أحد تلك الأبواب الموصدة التي تتلهف إقباله. على الرغم من ذلك كله لم يحول أو يبدل، وكأنه مستمسك بعروة وثقى يراهن على حجّيتها وعلى يقين ثواب آخرتها، أو كأنه ناسك صوفي متعبد اعتزل بهرج دنيا الثورة وزينتها خوفًا من حاقة جهنم القارة تحت صراط هذه الثورة وعند آخرتها، وهي تصيح بالعابرين والمعبِّرين: «هل من مزيد؟»، وكأنه ذاك المتفرد المغرم بعزلته في محراب الذات، الذي يجد صدق عبادته في إفراد ذاته، وتنزيه صلاته عن إثم ضلالة الصلاة مع الجماعة؛ فهو الذي عاش منبوذًا من نظام الأسدين، ومبعدًا أو مبتعدًا من اتحادات الكتاب والمؤسسات الثقافية الرسمية العربية التي يرتع فيها معظم مثقفي العرب ويجترون منافعها، هو ذاته اليوم وبذاته يعتزل صفوف المعارضة ويتجنب أجر اجتماعها وحسنات جماعتها، وينأى بذاته عن طقوس المرحلة، ملتزمًا مرة أخرى محراب ذاته، صوفيًا يتنسم في ذاته المختلفة تباشير بركتها وعلامات كرامتها. وعلى هذه الحال من التجاذبات والتوافقات والاصطفافات السياسية بات الواقع السوري، رهانٌ بِرِهان، وأحزاب وتيارات وتحالفات وتجمعات، وكل يزعم –النظام، وموالاته، والمعارضة وأتباعها، والمسلحون، والسلميون، والحياديون، والرماديون، والمعتزلون، والأدونيسيون– كلهم زاعم مدعٍ أنه الفرقة الناجية في خضم الثورة السورية ومخاضاتها؛ وعند سوريا الغد تجتمع الخصوم! ولم تخلُ تلك المظاهرات من مظاهر العنف ودماء الضحايا الأبرياء، وما رافق ذلك أو نتج عنه وتبعه من بعض أشكال المماحكات الطائفية، فعلًا أو ردة فعل واستجابة. وبدأت بوادر التكتلات السياسية تتبلور وتظهر، وأخذت رجالات المعارضة المعروفة تنضم إلى ركب الحراك وتحاول أن تأخذ مكانها المعتبر منه. ومع ازدياد منسوب دماء العنف، صار النظام والمعارضة يتبادلان الاتهامات حول مصدر هذا العنف والمبادر إليه أولًا؟ لقد أخذ الحراك الشبابي المدني يكتسب، مع دخول رجالات المعارضة القدامى معترك الحراك، طابعَ الثورة ممارسة وتسمية، وانتقل من دعوة إلى الإصلاح والتغيير البنيوي العام إلى المطالبة بإسقاط النظام نفسه، وكله برموزه من الرئيس وما دون. أشهرٌ قليلة لتتحول بعدها المظاهرات إلى ثورة مسلحة، بدأت بدعوى حماية المتظاهرين وانتهت إلى استخدام السلاح لإسقاطه بالقوة وانتزاع السلطة منه. وبدأ التدخل الإقليمي والدولي يشرّع سبله في الجغرافيا السورية، بعضه جاء لنصرة الثوار تحت مسمى إنقاذ الشعب، وآخر جاء لنجدة النظام من السقوط تحت مسمى حماية الدولة. وبعد أن كان سقوط النظام قريب المنال ومحط التوقعات، عاد وانتفض من جديد بفضل جيشه الذي ملأ المدن وقطع الطرق، لتودّع البلاد مرحلة المظاهرات وساحاتها ومظاهرها العامرة بالرقص والغناء وأهازيج الحرية والوطنية، ودّعت ذلك كله لتنفتحَ على ساحات الوغى ومآتم الشباب، وغياهب المعتقلات، ودمار البيوت، وتهجير الشيوخ والنساء والأطفال، وفظائع المجازر والاختطاف. نظام وجيش، وقوات رديفة، وتشكيلات خاصة، وميليشيات طائفية وقومية ويسارية بعضها سوري وبعضها عربي وآخر أجنبي. وفصائل معارضة، ومنشقون، وقوى بنكهة عرقية، وتنظيمات جهادية بعناصر عربية وأجنبية. ثم تركيا وإيران وأمريكا وروسيا والناتو. وكأنها حرب عالمية تحت غطاء ثورة شعب على نظام مستبد، وكلها صحيح: فهناك ثورة، وهناك نظام مستبد، وهناك صراع مصالح دولي واقتسام مناطق نفوذ وتصفيات حسابات إستراتيجية بينها على الأرض السورية وعلى حساب استقرارها ومن رصيد أرواح أبنائها. فالثائر يعتقد أنه محور الصراع، والنظام يرى أنه المستهدف وأن سوريا تواجه مؤامرة كونية، والدول تتصارع وتتدافع حرصًا منها على نفوذها وحماية مشاريعها فتتسابق إلى مصالحها عبر الخريطة السورية ومن داخل حدودها. لقد زعم النظام أن ثمة مخططًا إمبرياليًا- صهيونيًا يريد تمزيق سوريا وتحطيمها. والمعارضة قالت إن هناك نظامًا أجرم بحق شعبه وخان وطنه بغية الاستئثار بالسلطة والتفرد بنهب خيرات البلد. والقوى الدولية والإقليمية كلٌّ منها تدعي أنها تريد حماية سوريا ونصرة الشعب. ولقد زعم النظام أنه يحظى بشرعيته من الشعب. والمعارضة كذلك تزعم أنها هي من تمثل الشعب وتحمل عبء همومه وتطلعاته إلى الخلاص. ولقد كان بشار الأسد يعيش حالة من العناد والصلف والإصرار على أنه النظام الذي يحمي الدولة ويحفظها من الزوال الذي يُدبر لها؛ فلم يقبل بشرعية المعارضة ولم يعترف بأحقيتها ونعَتَها بالخيانة وارتضاء أن تكون مطية المؤامرات الخارجية (وهو الاتهام ذاته الذي تصمه به معارضته). وبين هذين المتناحرين –أو هذه القوى المتناحرة– سقط مئات ألوف الضحايا من جنود وثوار ومدنيين: شباب وكهول وأطفال وشيوخ ونساء، وسقط معهم ومثلهم عددًا وأجيالًا –أيضًا– مئاتُ ألوف المعوّقين وأصحاب العاهات والإصابات الحربية، عسكريين ومدنيين. سقط هؤلاء كلهم وسقطت مدن وقرى وبلدات وأحياء، وسقط اقتصاد البلد وبنيتاه: التحتية والفوقية، كلها أشياء سقطت ولمّا يسقط الأسد أو المعارضة بمختلف قواها وفصائلها وتشكيلاتها وتوجهاتها. وسقط الشعب فريسةً بين مخالب الجوع والفساد والفقر المدقع، وتحت رحمة متاهات الضياع والحيرة بين بلد مدمر أو فرار نحو مجهول غير مأمون. سقطت تلك الأشياء كلها ولم يبق أمام الناس إلا بصيص أمل وجدوا أنفسهم مجبرين على تعليق عيونهم وقلوبهم به ترقبًا وتعليلًا. ثم سقط الأسد فجأة وعلى حين غرة من العالم أجمع؛ سقط، لا هو يعلم كيف سقط؟ ولا المعارضة تعلم كيف؟ حتى القوى العظمى التي لا يمر سقوط من دون إذنها وخلف أُذنيها، فلا يكون إلا تحت بصرها وفوق سجاد ضميرها المصبوغ بحمرة دماء التاريخ، والمزين بمرأى براعم أخلاقياتها المغروسة على حافتي السجاد سورًا، يصون جنباتها من غبار الحياة ويحمي الشعوب المقدورَ عليها والمغدورَ بها من نوازع الفرار من قدرهم أو النجاة من قدراتهم وحكم قضائهم، حتى هذه القوى العظمى تكاد لا تعرف كيف سقط!!!. سقط النظام، ليسمح لسوريا أن تحبو، أو تسير، أو تهرول، وربما قد تطير من دونه. وحقًا صارت تسير من دونه بعد ما يزيد على خمسة عقود، ولجامُها ورهانها بيده. سنة كاملة وهي حرة بلا قيده العتيد، سنة جعلت كثيرين يعيدون التساؤل فيما ظنوه بديهيات؛ فكان أول التساؤلات: مَن هو الأسد أو من هما الأسدان، وكيف كانا يديران البلاد؟ ثم: كيف كانت سوريا قبل السقوط، وكيف ستكون بعده؟ وبعد هذه الأيام والشهور من السقوط، كان لزامًا على الدولة السورية ذاتها أن يكون خاتمة الأسئلة منها ومِن نسج وجدانها وبمداد دماء فلذاتها: مَن الذي سقط: أنا أم الأسد؟ الأيام كفيلة بإنجاز هذه الإجابات كلها. وقبل أن تجيب عنها –وقد كان الأسد ذات حقبة يظن أو يعتقد أن أفئدة السوريين أغلبهم معلقة به– يستبق المقالُ إجاباتِ الأيام القادمة عن تلك التساؤلات التي كنا نظن –أيضًا– ذات حقبة أن إجاباتها من البديهيات، والسؤال في البديهيات من أعقد الأسئلة وأشكلها وأهمها، يستبقها لا ليجيب عنها بدلًا منها، بل ليضيف إليها سؤالًا آخَر، وربما الأيام حبلى كذلك بالتساؤلات الأخرى والأخيرة، سؤال ليس هو الآخِر حتمًا: إذا كان الأسد يومًا ما قد اعتقد أنه يملك أفئدة السوريين جلّهم، فكم من الأفئدة، السورية والعربية، اليوم يسكنها طيف هذا الأسد، وكم فؤادًا سيتعلق به لو قيل إنه سيعود ليستبد استبداده الأول بهذا البلد وشعبه ويستكمل سيرته الأولى فيهم، ولتمسي سوريا وزمامها ولجامها بيده من جديد وحديد؟!! لقد صنع الأسد مسقطيه ليسقطوه؛ فكيف سيعيد المسقطون بعد سقوطه رسمَ صورتِه قبلَ سقوطه؟ ولك أنتَِ السوري –كذلك– فاجعًا أم مفجوعًا، أن تسأل سؤالك الذي تحتار في جوابه، وتنتظر له إجابة الأيام. سؤال يمكن أن تصوغ حروفه بالحبر الذي حُطمت معامله فلم يبق منه إلا ما جفّ على الجدران شعارًا وعلى الشواهد شاهدًا يعمر شاهدة، أو بالرصاص المستهلك في بقايا الأجساد، أو بدماء الضحايا، أو بدموع التفجع والفواجع، أو حتى بتراب البلد المبتلى فؤاده والنازف جوفه والمحشوة أحشاؤه بكلّ ألوان المداد السوابق: كشاهدة قبرٍ جامع، حين عزّ الجمعُ فوق ثراه وعلى بشارة بشرته فعزّاه قلبه وترحّم –قبرٍ جامع– بعد أن عجز، فوق ثراه وعلى بشرته وأديمه عن جمع بشره وأوادمه، الجامعُ فسجدَ بركامه ومئذنته استغفارًا– قبرٍ لبلد ودولة وتاريخ وأحلام ومآس... ولأسرار... إنها: مقاربة تراجيدية بناء على أنقاض خشبة المسرح السوري: ( وهذا عنوان رجعي متأخر على زمن متقدِّم– مؤجَّل لزمن قادم. أو هو: عنوان رجعي متأخر على زمن قادم– مؤجَّل لزمن متقدِّم. أو مؤجِّل لزمن متقدِّم أو متقدَّم. أو لك أن تبعثره وتتبعثر به كيفما شئت أو شاء القدر على أنقاض هذا المسرح المبعثَر أو المبعثِر. أو تصوغه وتبنيه من أنقاضه: أنقاض العنوان أو أنقاض المسرح... لك احتمالات بلد ومصير لا انتهاء لها أو قد انتهى. أو.....!)