برائحة القهوة وأنفاس العود استقبل مركز الملك فهد الثقافي زوار مؤتمر الاستثمار الثقافي في يومه الثاني، حيث ازدانت أروقة المركز بالحضور النوعي من مفكرين ومبدعين ومسؤولين وصنّاع قرار، اجتمعوا جميعًا تحت سقف واحد لمناقشة آفاق جديدة لاقتصاد الثقافة وإمكاناته الواعدة. وقد توزّعت الجلسات الحوارية بين تجارب محلية ودولية، سلطت الضوء على دور الثقافة كقوة ناعمة تدفع عجلة التنمية، وتفتح مسارات جديدة للاستثمار في الفنون، التراث، الصناعات الإبداعية، والتقنيات الحديثة. في الأرجاء، امتزجت الأحاديث بالتصفيق والابتسامات، فيما شكّلت المعارض المصاحبة لوحة حيّة للتنوع الثقافي السعودي، من الحرف اليدوية إلى العروض البصرية، لتجسد رحلة تمتد من أصالة الماضي إلى طموحات المستقبل. المؤتمر لم يكن مجرد منصة نقاش، بل نافذة تطل منها المملكة على العالم لتقول إن الثقافة ليست ترفًا، بل استثمارًا استراتيجيًا يعزز الهوية الوطنية ويفتح أبواب الاقتصاد الإبداعي. وجاءت الكلمة الافتتاحية تحت شعار "بصمة سعودية عالمية – الاستثمار في الثقافة والهوية"، لتؤكد أن الحراك الثقافي الذي تعيشه المملكة اليوم ليس معزولًا عن العالم، بل هو جسر ممتد يربط بين الأصالة والحداثة، ويُرسّخ حضورًا سعوديًا مؤثرًا في المشهد الثقافي الدولي. وفي أروقة المركز، تواجد باحثون من وزارة الثقافة يستمعون إلى آراء الزوار ويجمعون ملاحظاتهم حول التجربة، في خطوة تعكس حرص الوزارة على إشراك المجتمع في صياغة المشهد الثقافي وتطويره بما يلبي التطلعات. وفي القاعة الرئيسية، خطف الأنظار إعلانٌ استثنائي تمثل في إطلاق مشروع "استكشاف جدة التاريخية عبر منصة جوجل للفنون والثقافة"، في تجربة رقمية فريدة تُتيح للعالم التجوّل في أزقة المنطقة المدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو. خطوة وُصفت بأنها الأولى من نوعها في المملكة، ونافذة جديدة تُبرز العمق التاريخي والبعد الحضاري للسعودية بوسائل عصرية وحديثة. أما الجلسات الحوارية، فقد حملت زخمًا من الأفكار والطروحات التي تُعيد تعريف دور الثقافة في الاقتصاد العالمي. من بينها جلسة "الثقافة كمحرك" التي ناقشت كيف تتحول الثقافة إلى قوة قادرة على تعزيز القدرة التنافسية وإلهام الابتكار، مرورًا بجلسة "بناء الثقافة الموجهة" التي وضعت السياسات ورأس المال الثقافي في قلب التنمية، وصولًا إلى "الابتكار الثقافي: وقود المستقبل" التي طرحت أسئلة جريئة حول ما إذا كان الإبداع هو محرك النمو الاقتصادي القادم للعالم. ولم يقتصر الحديث على القاعة الرئيسية، إذ فتح "الاستوديو الثقافي" مساحة رحبة لطرح أفكار غير تقليدية، مثل التعامل مع الثقافة باعتبارها مجالًا للبحث والتطوير، واستعراض كيف يمكن للمعرفة أن تتحول إلى أصل استثماري يولّد قيمة اقتصادية مستدامة. كما برزت الجلسة الخاصة ب المشروعات السعودية الكبرى التي أظهرت كيف أصبحت الثقافة جزءًا أصيلًا من رؤية المملكة في مشاريعها العملاقة، ليس فقط كعامل جذب سياحي، بل كقوة ناعمة تُعيد صياغة صورة المملكة عالميًا. وتنوّعت الحوارات ما بين البنية التحتية الثقافية كأصل استراتيجي، ودور الشراكات العالمية في دعم الاقتصادات الإبداعية، فضلًا عن نقاشات ثرية حول المهرجانات الثقافية كمساحات للحوار والدبلوماسية، والتصميم الصناعي كقطاع ناشئ يجذب المستثمرين والمواهب على حد سواء. كل جلسة كانت بمثابة لبنة تُضاف في صرح الرؤية الطموحة، حيث تتداخل الثقافة مع الهوية، والاقتصاد مع الإبداع، في معادلة تسعى المملكة إلى جعلها نموذجًا عالميًا. واختُتم اليوم الثاني للمؤتمر بجلسة حملت عنوان "النهضة الرقمية: حقبة جديدة في الأعمال الإبداعية المشتركة"، حيث أُعيد التأكيد على أن المستقبل الثقافي لن يُكتب في حدود مكانية أو زمانية ضيقة، بل سيُصاغ عبر فضاءات رقمية تتجاوز الجغرافيا وتفتح أمام السعودية والعالم آفاقًا غير مسبوقة للتعاون والإبداع.