الفضاء في وجداننا لم يكن يومًا فراغًا معلّقًا فوق الرؤوس؛ كان منذ الأزل مرآة لأحلام البشر، ننظر إليه فنستشعر الأسرار وعظمة الخالق، ومع كل جيل تتجدد الرغبة في أن يخطّ الإنسان اسمه في دفتر النجوم. وعندما اطلعت على حساب وكالة الفضاء السعودية قبل يومين وجدت أنها ممثلة في أكاديميتها للفضاء قد أطلقت النسخة الثانية من مسابقة "الفضاء مداك"، وما زاد دهشتي أن هذه الانطلاقة جاءت فيما لا تزال أصداء النسخة الأولى تتردد في أبها والمنامة، وفي دمشق وكوستي، وفي الدوحةوالقاهرة؛ إذ تحولت إلى حدث وحد ذاكرة المدن العربية، وترك نغمة لا تزال حاضرة في أذهان الطلبة والمعلمين والمهتمين، بما حملته من إبداع تجاوز الحدود. فالنسخة الأولى لم تكن مجرد مسابقة إذ بدت وكأنها أقرب لكونها حدثًا ثقافيًا وعلميًا استثنائيًا شهد أكثر من ثمانين ألف مشاركة من طلبة العالم العربي، حيث حمل كل واحد منهم فكرة أو لوحة أو تجربة: أحدهم رسم كوكبًا من زقاق قديم في دمشق، آخر دوّن تجربة علمية في كوستي، وثالث تخيّل مجرّة وأسقطها على الورق في شوارع القاهرة المكتظة بالناس والأحلام، ولقد اجتمعوا جميعهم حول مدار واحد تمثل في أن يكونوا جزءًا من المستقبل لا متفرجين عليه. وحين أشرفت رائدة الفضاء ريانة برناوي على هذا المشروع ارتقت المسابقة من كونها برنامجًا علميًا إلى رمز ملهم، وكانت صورتها وهي ترفع راية المملكة في محطة الفضاء الدولية عنوانًا لعقد جديد بين رؤية المملكة 2030 وأبنائها، فإشرافها أضفى صدقًا مضاعفًا، وأقنع الطلاب أن الطريق مفتوح وأن الفضاء امتداد طبيعي لخيالهم. واليوم ومع انطلاقة النسخة الثانية يتضاعف الحلم وتتسع الدائرة عبر ثلاثة مسارات: الفنون حيث يكتب الخيال لوحاته، العلوم حيث يتحول السؤال إلى تجربة، والهندسة حين تتجسد الفكرة في نموذج يقارب الحقيقة. وهذه المسارات ليست خطوطًا متوازية، ولكنها أجنحة ثلاثة لطائر واحد اسمه الإبداع العربي، ولعل تفرد المسابقة يكمن في أن المشاركات الفائزة لا تقف عند منصة التكريم أو صورة عابرة؛ ولكن بقدرتها على وصول محطة الفضاء الدولية، وهناك في المدار تصبح فكرة الطالب العربي جزءًا من التجربة الإنسانية جمعاء، وبرأيي هذه اللحظة لوحدها كافية أن تغيّر نظرة شاب إلى نفسه، وأن تزرع في قلبه أن أحلامه ليست أصغر من أن تعانق الفضاء، ومن يقرأ تفاصيل المسابقة يدرك أنها حجر أساس لجيل جديد يتقن لغة المستقبل. وقبل أن يتجاوز مقالي الخمسمائة كلمة اختتمه بدعوة الطلبة العرب في المملكة وسائر الأقطار إلى اغتنام هذه الفرصة العظيمة، وأن يطلقوا خيالهم من الدفاتر إلى المدار، فالأفكار الصغيرة اليوم هي بذور تجارب تدور غدًا حول الأرض تسعين مرة في اليوم، وأقول لهم سارعوا بالتسجيل فالنسخة الثانية من "الفضاء مداك" ليست مجرد بداية فصل جديد فحسب، ولكنها امتداد لرحلة ستظل حيّة ما دام هناك طالب يرفع رأسه إلى السماء ويرى فيها صورة أحلامه.