القيادةُ الإداريةُ ليست زخرفًا للألقاب ولا حشدًا للأوامر، بل صناعةٌ للنفوسِ وإحياءٌ للإرادات، وفيها سبيلان متباينان: سبيلٌ ينهضُ على الرِّفق، يستميلُ القلوبَ بالحِلمِ والمودّة، فيبعثُ الطاقاتِ الكامنة، ويصنعُ الولاءَ الأصيل، وسبيلٌ آخرُ يقومُ على التسلّط، يرهقُ الأبدانَ بالأوامرِ، ويُهمِلُ الأرواح، فيُنتجُ انقيادًا مُتكلَّفًا لا صدقَ فيه ولا إبداع. الرِّفقُ ليس رخاوةً ولا تفريطًا، إنّما هو قوّةُ العقلِ حين يضبطُ الشدّةَ بميزانِ الحكمة، ولينٌ يُستخرجُ به أشرفُ ما في النفوس من الحميّةِ والبذل. المديرُ الرّفيقُ يترفّعُ عن مزاحمةِ من معه في كرامتِهم، ويجعلُهم شركاءَ في حملِ الرسالة؛ فإذا وجَّهَ أمرًا وجدَ طاعةً عن رضًا، وإذا نبّهَ وجدَ إصغاءً عن ثقة، وإذا عاتبَ أصلحَ الخللَ برفقٍ يداوي القلوبَ قبلَ السلوك. ومن هذا النسق ينشأُ الانضباطُ طوعًا، ويغدو الولاءُ شعورًا أصيلًا لا تكليفًا مفروضًا. أمّا التسلّطُ فظلٌّ باردٌ يُجمِّدُ الهممَ، وإنْ أرهقَ الأبدانَ بالحركة. هو طاعةٌ تحت رهبةٍ تزولُ بزوالِ الرقيب، ويظنّ صاحبُه أنّ الصخبَ هيبةٌ، وأنّ العقوبةَ أيسرُ طريقٍ للإتقان. غيرَ أنّه لا يستخرجُ من النفوسِ إلا أخفضَ ما فيها: انقيادَ الأجسادِ دون إخلاصِ الضمائر. ولئنْ دُفِع الناسُ يومًا إلى الإنتاجِ قسرًا، فلن يلبثْ أن يخبو عطاؤهم ويذوي إبداعُهم، إذ لا تُنبتُ الأفكارُ في أرضٍ مقهورةٍ، ولا تُزهرُ المبادراتُ في ظلّ الخوف. وقد أرشدَ الوحيُ إلى أنّ اجتماعَ القلوبِ لا يكونُ إلا باللين، إذ قال الله تعالى مخاطبًا سيّدَ المرسلين صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللهَ رفيقٌ يحبّ الرِّفقَ في الأمرِ كلّه». فجعلَ الرِّفقَ سنّةً كونيةً في التدبير. وكان عمرُ بنُ الخطّاب، رضي الله عنه، مع ما عُرف به من شدّةٍ في الحقّ، يُوصي عُمّالَه بالرِّفقِ بالرعيةِ والعدلِ بينهم، حتى كتب إلى أبي موسى الأشعري: «ليكن أحبَّ الأمورِ إليكَ أوسطُها في الحقّ، وأعمُّها في العدل، وأجمعُها لرضى الرعيّة»، فجمعَ بذلك بين الحزمِ في الحقّ واللينِ في المعاملة، فاستقامَت النفوسُ على طاعةٍ عن رضًا. الولاءُ الوظيفيُّ في جوهره عقدٌ قلبيٌّ، لا يُستخرجُ بالسطوةِ ولا يُشترى بالعطاءِ المادّي، وإنّما يزهرُ حين يشعرُ المرءُ أنّه شريكٌ لا أداة، وأنّ صوتَه مسموعٌ وكرامتَه مصونة. حيث يسودُ هذا الشعورُ، يصبحُ الانضباطُ عادةً ذاتيّةً، والعملُ إبداعًا لا عبئًا. القيادةُ الناجحةُ قراءةٌ بليغةٌ لمكنونِ كلِّ فرد، تستثيرُ أجودَ ما فيه من طاقاتٍ وتستثمرُها في خدمةِ الرسالة، وتحدُّ من نقائصِه قبل أن تتسعَ رقعتُها؛ كالبُستانيِّ الحاذقِ يسقي الغرسَ حيثُ يثمر، ويقصُّ منه ما يعيقُه عن الإثمار، فهي هندسةُ النفوسِ قبلَ هندسةِ الأبنيةِ والجدران. ينجحُ المديرُ حقًّا حين يصوغُ من أتباعِه عشّاقًا للمنظومةِ لا مجرّدَ عاملين فيها، فيشعرون أنّهم يَسكنون بيتًا معنويًّا واحدًا، وأنّ رفعةَ المؤسّسةِ امتدادٌ لكرامتِهم ومجدُها مجدُهم؛ فإذا عملوا، عملوا بروحِ الشريكِ الغيور، وإذا ضحّوا، ضحّوا عن رضا وحُبّ. ويخفقُ المديرُ حين يزرعُ بأسلوبه في القلوبِ نفورًا من المؤسّسةِ نفسها، فينقلبُ العملُ عبئًا، والجهدُ تكليفًا مُثقِلًا، ويخبو الولاءُ من جذوره. إنّ القيادةَ الرشيدةَ هي التي تُحوِّلُ الطاعةَ إلى رغبةٍ صادقة، والانضباطَ إلى التزامٍ كريم، والولاءَ إلى عاطفةٍ حيّةٍ تستعذبُ البذلَ وتسمو به. وما من بناءٍ إداريٍّ ينهضُ على غير هذا الأساس إلّا كان وَهينًا، تنهارُ جدرانُه عندَ أوّلِ عاصفة. فلتكن غايةُ القيادةِ أن تحشدَ القلوبَ قبل الأيدي، وأن تُقيمَ الولاءَ على قناعةٍ راسخةٍ لا على رهبةٍ عابرة، فإنّ القلوبَ إذا أحبتْ نهضت، وإذا كرهتْ انكسرت. ومن الرِّفقِ المكينِ يولدُ الإبداع، ومن العدالةِ الحانيةِ يزدهرُ الانتماء، وبالعقلِ الرشيدِ والحِلمِ السديدِ تُشيّدُ صروحُ المؤسّساتِ وتُصانُ أمجادُها.