الفينومينولوجيا (phenomenology) ) كلمة مركبة من كلمتين: فينومينو =phenomeno/ لوجيا =logy). وهي كلمة ذات منشأ يوناني، وتعني (علم الظواهر)، الذي يعنى بكيفية تجسد الظواهر في الوعي البشري، أو هو الحقل المنهجي الذي يهتم بآلية تلقي العقل الإنساني ما يحيط به من ظواهر وأشياء الحياة: الناس، الكائنات الأخرى، الطبيعة، القيم.... ولكن مما قد يقع فيه كثيرون هو الخلط والتشويش في فهم منطلق هذا العلم، إذ لا يُعنى هذا الحقل بدراسة الأشياء كما تتجسد للعين أو للحواس، وإنما هو يبحث في انعكاس ما يراه الإنسان ويتعامل معه ويسمعه ويحتك به، ذلك كله في وعيه ووجدانه، أي هو علم الرؤية الاعتبارية للظواهر المادية وغير المادية، بمعنى أنه يدرس مسار الرحلة الإدراكية من الظاهرة إلى الوعي وتحولها من حالتها الكينونية العامة إلى الحالة المفهومية الفكرية والتصورية العقلية. وهذا ليس محل شرح الفينومينولوجيا وتفسيرها، وإنما تمهيد مختزل ليكون القارئ على إلمام بعنوانه، وعلى دراية بفكرته واستعداد للسير معه إلى نهايته؛ لأننا سنقارب مفهوم الدولة وتصورها في فكر أبنائها ووعيهم بها وجدانيا وعقليا، وانعكاس ذلك على واقع البلد وبنيته الراهنة ومآلات صيرورته واحتمالاتها. من الدولة إلى الثورة: يمكن أن نجمل بالقول إنها حالة ثورية اعترت بعض الشباب الحالم بحياة أفضل وبلد أجمل، من خلال تغيير بنية الحكم وإصلاح سياسة الدولة، نحو أنموذج ديموقراطي يراعي الأنظمة والقوانين ويحترم الإنسان وحريته، ويعطي المواطنة كامل حقها من التحقق والكرامة. ولذلك فهي على نحو أدق وتعبير أصدق ليست ثورة – إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تلازم العنف بوصفه مصاحبا لفكرة الثورة وطبيعتها- بقدر ما كانت نزوعا شبابيا نحو الحرية وحالما بها. هكذا بدأت مقتصرة على التظاهرات السلمية المطالبة بإصلاح سياسي جذري وبنظام ديموقراطي يليق بسوريا والسوريين. لكنها سرعان ما تطورت الأحداث وأخذت طابع القوة والتسلح والمجابهة. فأُسقط في يد الشباب طلاب الحرية، وانتُزعت الساحات منهم، وصارت الكلمة للسلاح والاقتتال. فاعتزل أكثرهم، وانضم قليلهم إلى خيار المجابهة والحرب. وصار كل طرف يرمي الثاني بالسعي إلى تجييش الحراك السلمي وتحويله إلى صراع مسلح؛ النظام يتهم المعارضة والمعارضة ترد الاتهام وتنسبه إليه. أكثر من ثلاث عشرة سنة من الحرب والقتل والدمار والتهجير والاعتقال والتصفية والإعدامات، حتى سقط النظام وزال عن كاهل الوطن. من الثورة إلى الدولة من جديد: هتف الشعب ابتهاجا بسقوط النظام وترحيبا بالعهد الجديد، الذي أعلن أن زمن الثورة انتهى، وأن البلد عاد ليعيش زمن الدولة ويشرّع تاريخها الجديد. وعلى الرغم من اتفاق السوريين قاطبة على أهمية الدولة والمحافظة عليها، لكن مَن يطلع على الواقع ويشاهد مجرياته وردود أفعال الناس على أحداثه، سيتضح له أن مفهوم الدولة ما يزال ملتبسا غير واضح المعالم ولا مستقر الدلالة في وعي السوريين، لا عقلا ولا وجدانا. هذا هو حال ظاهرة الدولة في الفكر الفردي السوري، على الرغم من أن الجميع يلهج باسم الدولة وبأهميتها وضرورة استقرارها؛ علما أن السؤال البدهي هنا: هل مفهوم الدولة متحقق الدلالة في وعي المواطن السوري، ومن ثَم هل هو متحقق على الواقع ومترجم عمليا فيما يجري راهنا؟ أي هل ثمة سلوك شعبي يترجم مفهوم الدولة وينقله من حيز الشعارات والتداول اللفظي والإعلامي بمستوياته كافة، إلى حيز الواقع والصيرورة التاريخية للبلد، بمجالاته البنيوية المختلفة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ راهن الدولة مفهومًا وصيرورة وبنية: لا أحد من السوريين اليوم إلا وهو يؤكد على فكرة الدولة وضرورة حمايتها وعدم المساس بها، في الوقت ذاته يجد الجميع ويرى أن مفهوم الدولة غائب عن واقع الحال، سواء أكان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. وما هذا إلا لأن المفهوم في جوهره ليس متحققا ولا مستقر الدلالة في الوعي الفردي، حتى يمكن أن يتطور وينتقل من الوعي الفردي إلى الوعي الجمعي، الذي عليه التعويل في تحققه واقعا واستقراره تاريخا واكتماله صيرورة. فالعيب ليس في الواقع والعطل ليس في الممارسة والتنفيذ، بل العيب في الوعي الفردي المعطل لتحققه وتحويله إلى وعي جمعي يمكن من طريقه ترجمته واقعا وممارسة. يسيطر اليوم على وعي الفرد السوري ويملأ شعوره ووجدانه ومخياله فكرة المظلومية الطائفية، وما يترتب عليها ويلحق بها من جور الطوائف الأخرى وتعنتها. وأما مفاهيم مثل: الدولة، والمواطنة، والوطن، فهي ليست أكثر من مفردات مبتسرة منها دلالاتها ومسحوبة منها ومعزولة عنها، وكأنها مجموعة ألفاظ أعجمية الدلالة والمفهوم ولا يُعرف منها غير حروفها ولفظها. وهي مفاهيم أشبه بكليشيهات تقال تثاقفا وتزيينا، وتُتداول تكلفا وتمويها على عجز إدراكي كلي لمعاني هذه المفاهيم وفهم جواهرها وتفاصيلها المنطقية المحددة. فما أكثر الذين يتغنون بفكرة الدولة ويلحون عليها، لكنهم في سياقات كلامهم ذاته يوجد ما يؤكد ويقطع الشك باليقين أنهم لا يعون ما يقولون ويلفظون، وأنها ليست أكثر من كلمات تزين سياقات أحاديثهم، ولمّا تتجاوز بعد حناجرهم، أو أبعد من ألسنتهم وأعلى وعيا أو أعمق وجدانا وشعورا. الدولة ليست أبعد من مفردة تزيينية ولازمة تضليلية، يتزين بها معظم السوريين اليوم، ويضللون على حقيقة عجزهم ووعيهم ونكوصهم عن استيعاب فكرة الدولة وفهم مفهومها والتفاعل معه عاطفيا؛ فالدولة هي فكرة أولا وهي مفهوم بشري قبلا، والأهم أنها حالة عاطفية وجدانية يجب أن يكون لها تأثير في الشعور واستقرار في الضمير، حتى يمكن تقبلها جمعيا وتجسيدها تاريخيا. هكذا هو الوعي الفردي للسوريين اليوم مع هكذا مفاهيم، يتساوون في ذلك جميعهم، لا فرق بين عامل أو مدير، ولا بين مهمش بسيط أو مثقف نخبوي، ولا بين فقير أو غني، ولا بين مواطن أو مسؤول. الوعي الثقافي الزائف: يمكن الزعم أن ما تضمنه المقال من توصيف وتفسير ينطبق أكثر ما ينطبق على الوعي الفردي للمثقف السوري، أو الذي يرى في عدته الثقافية وسيلة تثاقف وتكسب وارتزاق. فلقد عاشت سوريا بعد الاستقلال مرحلة الثقافة الديموقراطية، ثم مرحلة الحكم العسكري، وما تبعها من مرحلة المد الثقافي القومي، والاستقطاب الفكري اليساري. بيد أن طابع الاستبداد الملازم لأغلب هذا التاريخ يبدو أنه كان عائقا حقيقيا أمام تكوين فكر نخبوي، مستقل وقادر على خلق حركة فكرية فاعلة ومؤثرة. ولهذا كانت ليست أكثر من بنية ثقافية وهمية مزيفة، تعتاش على الارتزاق والتوسل والمتاجرة بالأفكار والمفاهيم التي لم تلامس يوما وجداناتهم ولم تستقر في ضمائرهم. لقد ظلت مفاهيم مثل اليسار والقومية والديموقراطية والدولة والمواطنة والوطن، ألفاظا مجردة من معانيها وغير متحققة في وعيهم، وما ذلك إلا لأن مفهوم الثقافة أولا وآخِرا لم يكن شيئا سوى مفردة بعدة شكلية وهمية مزيفة، بعيدة عن تحققها البنيوي الصحيح واكتمالها المفهومي المعبر، فهي مفردة مبتسرة مسحوبة من معناها، تُتخذ وسيلة ارتزاق وانتهازية. ولقد عجزت الجامعة السورية، عبر تاريخها المعاصر عن خلق ثقافة قادرة على إحداث بنية فكرية قادرة على وعي مفاهيم السياسة المعاصرة السابقة الذكر. بل لقد جسدت الجامعة السورية المكان الأمثل والبيئة الأكثر فاعلية في خلق بكتيريات الثقافة الوهمية، ثقافة الارتزاق والتثاقف الشعبوي المضلل والوعي التجاري الرخيص المزيف. نهاية الدولة بين الهاوية والعرب: تمر سوريا اليوم بأصعب مراحل تاريخها المعاصر- وربما أقدم من ذلك- وليس هناك من وعي جمعي فاعل قادر على حمايتها والحفاظ عليها. ولذلك فلا بد من يد العون العربية القادرة على انتشال الدولة من براثن الزوال؛ فلا منقذ اليوم ولا منجاة غير اليد العربية الكفيلة ببث الحياة في جسد هذا المفهوم المجرد من معناه والعاجز عن تحققه وانبثاقه. لقد كانت سوريا قطب بلاد الشام ومنبع رجالات الثقافة والمعاصرة، تلك الرجالات التي أغنت الثقافة العربية وخدمتها حين عجزت عن تحقيق ذاتها في بلدها وداخل حرم جامعاتها المنهوبة من سطوة الوعي الوهمي المزيف. واليوم يقع على عاتق العرب الحفاظ على هذا المنبع لأن في ضياعه وجفافه تمهيدا لضياع استقرار المنطقة وجفاف أحد أهم مواردها. اليوم ليس هناك من يد قادرة على المد والمساعدة وعليها تقع مسؤولية الإنقاذ والنجاة غير المملكة العربية السعودية، فهي اليوم المؤهل العربي الوحيد لهذه المسؤولية. فلا منقذ غير اليد العربية التي يمكن أن تحمي الدولة السورية من دون أطماع ومصالح. وفي ظل ما يتهددها من عجز جمعي داخلي وأياد إقليمية تتسابق على نهشها وافتراسها، لا بد من مسارعة اليد السعودية وإنقاذها. يجب على المملكة أن تسارع إلى البحث عن الوعي السوري القادر على استيعاب مفهوم الدولة وتحقيق وجودها وحمايتها من التمزق والاندثار، وتحاشي الوعي المزيف الذي يسير بها نحو نهايتها وتمزيقها وموتها.