اليوم الوطني ليس مجرد ذكرى تمر في أوراق الروزمانة، بل هو لحظة وعي نستعيد فيها بداياتنا الأولى، ونتأمل مسيرة وطن خطها الصبر وصاغها المجد، ولعلنا حين نعود إلى جذور الحكاية نجد أن اللحظة التأسيسية لم تكن حدثًا عابرًا، بل كانت ميلاد أمة كاملة. في ذلك المشهد الخالد، حين أقبل مانع بين ربيعة المريدي على الدرعية عام 850ه، بدت الرمال كأنها تنتظر ميلادًا جديدًا. كانت حبات التمر المتساقطة على صدر الصحراء بذورًا للوطن، وفي قلب الإمام محمد بن سعود تتجسد إرادة التأسيس والنخلة الباسقة ترنو إلى السماء بشموخها، كأنها تهمس: لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبِرا ومن بين الصبر والمجد انطلقت حكاية وطن، تجسدت رموزها في علم أخضر يعانق السماء بآيات التوحيد، وفي سيف مسلول يحرس العدل والكرامة، وفي نخلة وارفة تغرس الجذور وتبث العطاء. وفي هوية وطنية متجددة تصوغ روح الحاضر وتفتح نافذة على المستقبل. ليست المسيرة السعودية صفحات متفرقة في كتب التاريخ، بل خيطًا ممتدًا يربط البدايات بالتحولات. من التوحيد على يد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، إلى العهود التي رسخت الاستقرار وفتحت أبواب التنمية، وصولًا الى زمن الرؤية الذي يضع ملامح الغد، إننا أمام وطن عرف كيف يصوغ ذاته عبر الأجيال، ومن هنا فقط نستطيع أن نقرأ هذه التجربة من خلال نظرية أرنولد توينبي عن»التحدي والاستجابة، التي ترى أن الحضارات تنهض حين تواجه تحديات كبرى وتستجيب لها بوعي وابتكار وهي التي تحدد الحكم التاريخي لها أو عليها. والتاريخ السعودي خير شاهد على ذلك، فقد واجهت هذه الأرض القاحلة تحديات التفرق والشتات، فجاءت الاستجابة بولادة الدولة السعودية الأولى التي جمعت الكلمة ووحدة الصفوف، ثم جاء التحدي الثاني مع سقوطها، وكان يمكن أن يضيع الحلم، غير أن الاستجابة جاءت بتجديد المشروع عبر الدولة السعودية الثانية ثم الثالثة على يد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، ليتبين أن الأُمّة الحية قادرة على النهوض من تحت الركام كأسطورة العنقاء رمز الانبعاث. واليوم إذ نتأمّل رؤية المملكة 2030، ندرك أن الأمم لا تكتفي بالاستجابة للتحديات فحسب، بل تضيء بوصلة المستقبل بما يشبه النبوءة الحضارية، أن الروية ليست مشروعًا اقتصاديًا أو اجتماعيًا فقط، بل منارة تُعلن ان الحضارات الحديثة تقاس بقدرتها على استبصار الطريق قبل أن يداهمها التحدي، وهنا يكمن سر البقاء السعودي، الممتد من عبقرية الاستجابة إلى عبقرية عراب الرؤية سمو الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-. وفي مواجهة تحديات الحداثة والانفتاح، لم يكن خيار المملكة العربية السعودية هو الذوبان في الآخر، ولا الانغلاق على الذات، بل المزواجة بين الثوابت الشرعية والثقافية، ومشروعات التحديث والتنمية، لبناء وطن متجذرًا في أصالته، منفتح على مستقبله. إن أعظم الشواهد على مسيرة التحدي والاستجابة في تاريخنا السعودي، ما سطّره قادة هذا الوطن في جدار التاريخ، وهو الأصل الراسخ للوعي السياسي والطريق للحكمة، فقد قال الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه-: «أنا مستعد أن أجعل أكبر شخص فيكم، وأصغر شخص في الرعية سواسية أمام الحق،» فكان الوطن منذ بدايته عنوان المساواة والعدل، ثم تعاقبت الأجيال من أبنائه الملوك، وكل واحد منهم كان لبنة في صرح المجد. جاء الملك سعود ليحمل راية البناء، وبعده الملك فيصل بحكمته وهو يردد: «عزنا بالإسلام وقوتنا بالإسلام، وحياتنا بالإسلام،» ليؤكد أن نهضة المملكة لا تنفصل عن عقيدتها، وأطلّ الملك خالد بطمأنينته وهو يقول: «لقد أقسمنا أن نخدم هذه الأُمّة، ونبذل دماءنا في سبيلها»، ثم مضى الملك فهد ليعلن: «إن ما نتمتع به من وحدة ورخاء، إنما هو ثمرة تمسكنا بعقيدتنا الإسلامية»، وتبعه الملك عبدالله بحسّه الإنساني وهو يذكر شعبه أن: «الوطن ليس شعارات تُرفع في المناسبات، بل عمل يومي من كل فرد». واليوم في عهد الملك سلمان -رعاه الله- يتجدد المجد: «هدفي الأول أن تكون بلادنا نموذجا ناجحًا ورائدًا على كافة الأصعدة» فجعل من الحاضر نهضة ومن المستقبل رؤية، يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بطموحه الذي لا يعرف المستحيل: «لا نريد أن نعيش حياة اعتيادية، هدفنا أن نصنع شيئًا جديدًا في هذا العالم». وهكذا من جذور آل حنيفة التي أورثت الثبات، ومن وعي آل سعود الذي ورث الحكمة بقيت المملكة قادرة على تخطى الصعاب. اليوم الوطني ليس يومًا عابًرا، بل هو نهر مجد يتدفق في شراييننا، وهوية لا تنطفئ جذوتها، ووطن نكبر به ويكبر بنا، إنه عهد متجدد بأننا أبناء وطن عريق، وأن المجد الذي شُيّد بالصبر والعزيمة سيبقى ممتدًا مادام فينا نفس ينبض وفكر يبدع.