تسلط أنماط التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة الضوء على تفاقم العزلة الدولية لإسرائيل، إذ تخلى عنها حتى بعض المدافعين الذين ناصروها منذ فترة طويلة. وكان الأسبوع قبل الماضي من أسوأ الأسابيع التي مرت على الدبلوماسية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة، فقد أثارت الضربة العسكرية التي استهدفت قادة «حماس» في الدوحة إدانة صريحة من الرئيس ترمب، كما أصدر مجلس الأمن الدولي بيانًا يدعم قطر ويدين الضربة، وذلك بإجماع الأعضاء، في خطوة نادرة منذ غزو روسيا لأوكرانيا. ورغم أن واشنطن حالت دون الإشارة إلى إسرائيل بالاسم في البيان، إلا أن رسالة الغضب الجماعي كانت واضحة. كما صوتت 142 دولة من أصل 164 في الجمعية العامة لصالح مبادرة فرنسية - سعودية لإنشاء دولة فلسطينية، وذلك رغم اعتراضات إسرائيل والولاياتالمتحدة. وفيما يركّز عدد من المراقبين - بشكل مفهوم - على حادثة قطر وتأثيرها المباشر على حرب غزة وتداعياتها على اعتماد دول الخليج على الضمانات الأمنية الأمريكية، يبقى تصويت الجمعية العامة على تأييد «إعلان نيويورك» بشأن حل الدولتين أمرًا بالغ الأهمية. وليس ذلك لكون الإعلان يحمل صلة حقيقية بصنع السلام الفعلي بين إسرائيل وفلسطين - بل على العكس تمامًا؛ إذ إنّه، كحال عدد من قرارات الجمعية العامة، سيُطوى سريعًا، نظرًا إلى أن دعوته لإقامة دولة ترتكز على سلطة فلسطينية مُصلحة تفتقر كليًا إلى أي ارتباط بالواقع السياسي الراهن للطرفين. بل إن الأهمية الحقيقية تكمن في أن حصيلة الأصوات وأنماط الامتناع عن التصويت تكشف بوضوح تفاقم عزلة إسرائيل الدولية، لدرجة أن بعض المدافعين عنها منذ فترة طويلة قد تخلّوا عنها مؤخرًا. ويزداد هذا الاتجاه المثير للقلق وضوحًا عند تتبّع التصويت على ثلاثة قرارات متحيّزة صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضية الإسرائيلية - الفلسطينية: أولها في ديسمبر 2017، والذي انتقد بشكل ضمني إدارة ترمب الأولى لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، حيث وصف القرار هذا النقل بأنه «لاغٍ وباطل»، وحثّ الدول الأخرى على الامتناع عن نقل سفاراتها إلى المدينة المقدسة؛ وثانيها في ديسمبر 2023 خلال إدارة بايدن، والذي دعا إلى وقف فوري وشامل لإطلاق النار في غزة لدوافع إنسانية؛ أما القرار الثالث والأخير فيتمثّل في التصويت الذي جرى الأسبوع قبل الماضي لتأييد إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في خضم حرب دائرة. وبنظرة فاحصة، تبدو مجموعة «المعارضين» متماسكة في الظاهر، لكنها كشفت عن تقلب واضح، حيث صوّتت 14 دولة مختلفة ب«لا» في مرحلة أو أخرى. وبجانب الولاياتالمتحدة وإسرائيل، لم تُعارض سوى دولتين كل القرارات ال3: ميكرونيسيا وناورو. يُمثّل انخفاض عدد حالات الامتناع عن التصويت اتجاهًا مقلقًا بالنسبة لإسرائيل، نظرًا لأن الامتناع يُعد في العرف الدبلوماسي لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة نوعًا من أنواع الدعم السلبي لإسرائيل. ولم تُظهر معارضة أو امتناعًا ثابتًا في كل التصويتات الثلاثة سوى 3 دول: غواتيمالا، التي عارضت قراري 2017 و2023 وامتنعت عن التصويت الأسبوع قبل الماضي، إضافة إلى الكاميرون وجنوب السودان، اللتين امتنعتا عن التصويت في المناسبات الثلاث جميعها. غير أن الغالبية العظمى من الدول التي امتنعت عن التصويت في 2017 و2023 انتهت إلى تأييد القرار الأخير في نهاية المطاف. يُعدّ تراجع عدد حالات الامتناع عن التصويت خطيرًا بشكل خاص بين الدول ذات التوجه الغربي، ولا سيما داخل الاتحاد الأوروبي. ففي عام 2017، امتنعت 8 دول أعضاء أو مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عن التصويت؛ وفي عام 2023، امتنعت 11 دولة عن التصويت بينما اعترضت دولتان (النمسا وجمهورية التشيك). أما في التصويت الذي جرى الأسبوع قبل الماضي، فلم تمتنع سوى دولتين (جمهورية التشيك ومولدوفا) فيما اعترضت دولة واحدة فقط (المجر). وعلى صعيد آخر، خلال 3 تصويتات في أقل من عقد واحد، يبدو واضحًا أن إسرائيل فقدت الدعم السلبي لدى 15 دولة ذات توجه غربي كانت قد امتنعت عن التصويت في القرارات السابقة، وهي: أستراليا، بلغاريا، كندا، كرواتيا، جورجيا، ألمانيا، إيطاليا، لاتفيا، ليتوانيا، هولندا، بولندا، رومانيا، سلوفاكيا، أوكرانيا، والمملكة المتحدة. ومما لا شك فيه أن التغيرات السياسية الداخلية في بعض هذه الدول أثّرت تأثيرًا مهمًا على سلوكها التصويتي. تُظهر الأرقام أيضًا انقسامًا ملفتًا في أوروبا؛ فمن بين 27 دولة في الاتحاد الأوروبي إضافة إلى المملكة المتحدة، امتنعت نصفها تمامًا عن التصويت أو عارضت قرارًا واحدًا على الأقل من هذه القرارات، في حين أيد النصف الآخر كل القرارات الثلاثة. وتشمل قائمة الدول التي صوتت ضد الموقف الأمريكي - الإسرائيلي في جميع هذه القرارات: بلجيكا، قبرص، الدنمارك، إستونيا، فنلندا، فرنسا، اليونان، أيرلندا، لوكسمبورغ، مالطا، البرتغال، سلوفينيا، إسبانيا، والسويد. كما لم تشارك 6 دول تعترف رسميًا بدولة فلسطينية مستقلة في تصويت الأسبوع قبل الماضي على قرار إقامة الدولة، وهي: إيران، العراق، مدغشقر، تونس، فنزويلا، وزامبيا. في نهاية المطاف، تبقى أهمية مثل هذه التصويتات في الجمعية العامة للأمم المتحدة محدودة، فهي غير ملزمة وغالبًا ما تكون شكلية واستعراضية، كما أنها تخفي خلفها العلاقات الواقعية التي قد لا تعكس بالضرورة سلوك التصويت الذي تُبديه دولة ما أمام الرأي العام. بيد أن أنماط التصويت يمكن أن تُشكّل مؤشرات مفيدة على الديناميات السياسية الخفية. وبالنسبة لإسرائيل، فإن هذه الأنماط تُقدّم إشارة أخرى مقلقة على تزايد عزلتها الدبلوماسية، وهو مسار يتعارض مع الآمال التي بعثتها اتفاقيات «أبراهام» قبل خمس سنوات.