لماذا نكتب؟ سؤال قديم يكمن في جوهره الصراع بين فكرة البقاء وخلود الأثر، وبين الانتشار السريع الذي يصنعه القارئ اللحظي للنصوص الاستهلاكية التي تتبخر بمرور الوقت. عبر التاريخ كان الأدب أحد أهم طرق الخلود. حين نقرأ الإلياذة أو مسرحيات شكسبير أو قصائد المتنبي، فإننا نتلقى نصوصا تحدت الزمن، وذلك لأنها حملت أسئلة وجودية لا تبلى.. معنى البطولة، قسوة الموت، صراع السلطة، بحث الإنسان عن المعنى. هؤلاء الكتاب صدروا في أعمالهم رؤية أعمق للعالم، فصار نصهم يتجاوز عصره، وأصبح جزءًا من التراث الإنساني. لكننا اليوم نعيش في زمن مختلف، فالسوق الأدبي ينتج مئات العناوين شهريا، معظم هذه العناوين يزول سريعا مثل وجبة سريعة تقدم في مطعم مكتظ. هناك نصوص تكتب لإرضاء لجان الجوائز، أو لتحقيق مبيعات عاجلة، أو لتحقيق أهداف شخصية. نصوص تنحني لذائقة لحظية، فيطويها التقادم، ولا تصمد طويلا. وسائل التواصل بدورها أضافت بُعدا جديدا: مقاطع قصيرة، نصوص مبتسرة، اقتباسات تتداول كسلعة لغوية. لقد أصبحنا أمام حالة من الكتابة تشبع احتياجا مؤقتا، لكنها لا تقيم جسورا مع الزمن. مع ذلك، فليس كل نص جماهيري زائلا، ولا كل نص نخبوي خالدا، فكثير من الأعمال التي انطلقت بوصفها «شعبية» تحولت إلى نصوص خالدة. تشارلز ديكنز مثلا نشر رواياته مسلسلة في الصحف كترفيه للطبقات الوسطى. لكنها اليوم تعد مرجعا لفهم المجتمع الإنجليزي. ونجيب محفوظ كتب الثلاثية كقصة لعائلة مصرية عادية، ومع الزمن صارت مرآة فلسفية لتاريخ مصر. وحتى المعلقات العربية التي كانت قصائد تلقى في السوق للفخر وإثارة الإعجاب، أصبحت «ديوان العرب»، ومفتاحا لفهم روحهم عبر العصور. الجماهيرية إذا لا تعني السطحية، لكنها قد تكون حافزا لتدفق النص عبر التاريخ بشرط أن يحمل النص في ذاته صدق التجربة وعمق المعنى. في المقابل، لم تنج النصوص النخبوية بالضرورة من معضلة النسيان، فالتاريخ الأدبي مليء بأسماء كتاب «أكاديميين» كتبوا نصوصا جادة، لكنها ماتت بانتهاء زمنها، لأنها لم تلمس قلق الإنسان أو أسئلته الكبرى. في تراثنا العربي مثلا نجد الشعراء الذين ملأوا قصور الخلفاء بمدائح بليغة اندثروا، بينما بقي المتنبي والمعري، لأن شعرهما حمل الوجع الإنساني وحكمة الوجود، بل إن كثيرا من الروايات الحديثة التي صيغت بلغة أدبية عالية ورموز مغلقة لم تجد قارئا يعيد إحياءها بعد سنوات قليلة من صدورها. فالنخبوية وحدها لا تكفي، بل إنها قد تصبح قيدا يخنق النص، ويعزله عن القارئ. يبقى السؤال إذن: هل يمكن للكاتب أن يجمع بين متعة الاستهلاك وحلم الخلود؟ يكمن الجواب في مستوى تجربة الكاتب، وفي الأدب الصادق الذي لا يساوم على جوهر الإنسان، بل يعبر عنه بلغة تلامس القارئ الآن، وتبقى قادرة على مخاطبته غدا، فالأدب الحقيقي هو محاولة مستمرة لمقاومة النسيان، والنصوص العظيمة تجد طريقها دائما لقارئ يعيد إحياءها جيلا بعد جيل.