في السنوات الأخيرة أصبحنا نسمع كثيرًا في القطاع الصحي عن مؤشرات الأداء، وكذلك عن الاعتمادات، وكأنها الغاية التي تتحقق بها جودة الخدمات الصحية. ومن هنا ظهرت ظواهر أصبحت منتشرة بشكل كبير في القطاع الصحي: الأولى هي حمى المؤشرات، حيث تزدهر الأرقام المثالية في التقارير وتُضيء اللوحات بالأخضر، لكن في الواقع يحتاج المرضى إلى تركيزنا على الإحصاءات بدلًا من الإنسان. والثانية هي حمى الاعتمادات، حيث تتحول الشهادات المعترف بها رسميًا إلى غاية بحد ذاتها، تنفق من أجلها الميزانيات ويعاد ترتيب السياسات، بينما تظل الجودة في الممارسة الحقيقية غائبة أو متأخرة أو مبالغ في تقديرها. ما حفزني لكتابة هذا المقال هي قصة حكى لي أحداثها أحد الزملاء من أطباء الطوارئ عن أحد الحالات الطبية الحرجة التي مرت به مؤخرًا في إحدى الليالي وخلال مناوبته، أُحضر شاب متأثرًا بحادث سير، وأجريت له عملية جراحية معقدة. كانت المؤشرات مثالية: ضغط الدم مستقر، الإجراء سريع والتحضيرات كاملة. في لوحة الأداء، هناك نجاح. لكن بعد ساعات، تدهورت حالته بسبب عدوى لم تكتشف في وقتها، وفقد حياته. على الورق، الأرقام كانت خضراء وفي الواقع، حياة ذهبت بلا عودة. هنا تتجلى المفارقة التي تواجه بعض المؤسسات الصحية فالمؤشرات أداة مهمة لمتابعة الأداء وتحسينه، لكنها تصبح بلا معنى إذا لم تختر بعناية وتعكس الواقع الفعلي لجودة الرعاية. قد تبدو الأرقام مثالية من الخارج كما في «ظاهرة البطيخ» قشرة خضراء لامعة تخفي بداخلها لونًا أحمر مليئًا بالمشكلات، حيث تظهر معدلات العمليات ناجحة، والبروتوكولات مطبقة، بينما يعاني المرضى من مضاعفات يمكن تجنبها أو يرحلون قبل أن يغادروا المستشفى. أما حمى الاعتمادات، فهي تظهر جلية بأنواعها المختلفة، مثل شهادات الاعتماد من هيئات مثل (JCI)، أو الاستعداد للحصول على اعتماد المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية (سباهي) حتى لو لم يتغير شيء ملموس في تجربة المريض. الاعتماد بلا شك يدفع المؤسسات لإعادة النظر في أنظمتها وبنيتها، وقد أظهرت دراسة أن الالتزام بمعايير الاعتماد له فوائد ملموسة في تحسين الأداء والسلامة داخل المستشفيات. والمشكلة الحقيقية ليست في الاعتمادات، بل في جعلها غاية بحد ذاتها، تبنى لها فرق العمل، وترصد لها الميزانيات، وتعاد صياغة السياسات والإجراءات خصيًصا لاجتياز التقييم. بلا شك، الاعتمادات مهمة وتوفر أطرًا قيمة للجودة، لكن حين تتحول إلى سباق للحصول على الشهادة فقط، قد تختزل الجودة في مستندات وتقارير، بعيدًا عن التطبيق الفعلي على أرض الممارسة. لقد شهدنا مؤسسات تضع جهدًا هائلًا في تجهيز الملفات والوثائق المطلوبة للاعتماد، بينما لا يلمس المريض أي فارق في جودة الرعاية. هذا الانفصال بين الاعتماد كوثيقة والجودة كممارسة يخلق فجوة خطيرة: المستشفى قد يتوج بشهادة عالمية، بينما يظل المريض يعاني من طول الانتظار أو ضعف التواصل أو خطر المضاعفات. الجودة الحقيقية لا تكمن في الامتثال الشكلي، بل في الثقافة التي تجعل المؤشرات والاعتمادات وسائل لاختبار الواقع وتحسينه. المطلوب أن نعيد لهذه الأدوات مكانها الطبيعي: البوصلة التي ترشدنا إلى الطريق، لا الخط النهائي الذي نتوقف عنده لنلتقط الصور التذكارية. المؤشرات يجب أن تعكس تجربة المريض ونتائجه الفعلية، والاعتمادات يجب أن تترجم إلى تحسين مستمر ومستدام في الأداء، لا إلى أوراق تركن في الأدراج بعد انتهاء الزيارة. القطاع الصحي لا يحتاج فقط إلى مؤشرات دقيقة واعتمادات مرموقة، بل إلى وعي متجذر بأن الغاية الأسمى هي حياة المريض وسلامته ورضاه. فالأرقام قد تلمع، والشهادات قد تعلق على الجدران، لكن النجاح الحقيقي يقاس بابتسامة المريض وهو يغادر المستشفى حيًا ومعافى. فالغاية ليست أن يلمع التقرير، بل أن يخرج المريض حيا، مطمئنًا، وقد لمس الجودة في رعايته.