في حياة كل إنسان محطات من القرب والبعد، لقاءات تُزهر وأخرى تخفت، وقلوب نطرق أبوابها ثم نفترق عنها يومًا ما، والعبرة ليست فقط في البداية المليئة بالحماس ولا في منتصف الطريق المليء بالمواقف، بل في كيفية إدارة النهاية فالأدب في العلاقة واحترام النهايات هو ما يخلّد صورتنا في ذاكرة الآخرين. التأدب في العلاقة يعني أن نُحسن اختيار كلماتنا، وألا نرفع صوتنا عند الغضب، وألا نكسر شيئًا لا يُرمم القلوب كم من خلاف بسيط تحوّل إلى قطيعة طويلة بسبب كلمة جارحة، وكم من جرح بقي سنوات لأنه لم يُداوَ بلطف، لذلك كان يُقال: «اللسان جرحه أعمق من السيف»، وما يُداوي ذلك الجرح إلا رقيّ التعامل. أما احترام النهايات، فهو أن نغلق الأبواب بهدوء بدل أن نتركها مفتوحة على صخب واتهامات، أن نُدرك أن انتهاء العلاقة لا يلغي ما كان فيها من مودة وخير لننظر إلى من كانوا يومًا قريبين، ونقول: «شكرًا لما منحتمونا إياه، وعذرًا إن قصرنا، وليحفظكم الله في دروبكم». بهذا فقط نصون الذاكرة من التشويه، ونحفظ لأنفسنا كرامة لا يطويها الزمن. انظر حولك؛ ستجد من أنهى علاقة بوعي، فبقي ذكره طيبًا رغم الغياب، وستجد من أنهى علاقة باندفاع، فظل يحمل ثقل الندم طويلًا، والفرق بينهما كلمة طيبة، أو تصرّف مهذب، أو قرار واعٍ بأن «الأخلاق أثمن من كل شيء». وقد لخّص الشافعي هذه الفكرة في بيت شعر خالد حين قال: «فإذا قَرَنتَ مُودَّتي بوصالِهم فقد رَبِحتَ، وذاك حظٌّ كافِ» أي أن المودة الصافية تكفينا، حتى لو انتهى الوصال. إن احترام النهايات ليس ضعفًا، بل قوة، هو وعيٌ بأن العلاقات قد تنتهي، لكن القلوب تبقى شاهدة، وأن أجمل ما نتركه خلفنا ليس الهدايا ولا الصور، بل أثر طيب يقول: «مرّ من هنا إنسان يعرف قيمة الأدب».