صدر القرار المتعلق بإنشاء الشركات البلدية في النصف الثاني من عام 2012، الذي نص في مضمونه على إنشاء شركة لكل أمانة، تمثل ذراعها الاستثمارية. وبالنظر إلى تاريخ القرار، وحتى كتابة هذا المقال، مر عقد ونيًف من الزمن في عمر تلك الشركات. بكل تأكيد هناك فوارق بين تلك الشركات من حيث موعد الانطلاق وحجم الدعم الموجه لها لاعتبارات عدة. هذه الفترة طويلة جدا من عمر شركات القطاع البلدي، البالغ عددها 17 شركة، منذ صدور قرار التأسيس وحتى موعد إطلاق أعمال القليل منها، التي كما أسلفنا تتمتع بأفضلية نسبية عن البقية، لأسباب تعود إلى حجم الأمانات في المناطق التي تأسست فيها هذه الشركات. لا شك بأن هناك مجموعة من العوامل شكلت في تقاطعها بيئة غير صالحة لمثل هذه المشاريع الوطنية الطموحة. عوامل داخلية وأخرى خارجية، وأعني هنا بالخارجية تلك التي خارج أسوار القطاع البلدي. دعونا في هذا السياق نستعرض جُزءا يسيرا منها: 1. عدم تحديد الهدف الإستراتيجي لشركات القطاع البلدي، وربطه بأهداف رؤية 2030. 2. استبقاء آلية الإشراف على الشركات البلدية ضمن قطاع الاستثمار في كل أمانة، وكلاهما تحت مقصلة القطاع البلدي، وبالتالي إدارة هذا التجمع من شركات الإعمال بعيدا عن مسار الأهداف الوطنية. 3. ط تداخل سلطات العديد من القطاعات الحكومية الأخرى في شأن الاستثمار البلدي، بناء على تنظيمات قديمة العهد لم تستوعب رؤية العهد الجديد في كيفية إدارة قطاعات الدولة للنشاط الاستثماري الحكومي. 4. عدم التقدم بعرض كل المعوقات الجوهرية التي تقف عائقا في مسار تطور شركات القطاع البلدي أمام المشرع، بهدف إعادة صياغة الأهداف التي يجب تحقيقها من خلال الشركات، وربطها بأهداف الرؤية الوطنية المجيدة (رؤية السعوديين الجدد). وخدمة لسردية المقال، وإشباعا لحاجة القارئ، دعوني استوقفكم قليلا عند بعض الأرقام المتعلقة بنتائج صندوق الاستثمارات العامة لعام 2024. بحسب التقرير الذي أصدره الصندوق، فقد حقق نموا بلغ 18% في أصوله المدارة، لتبلغ بذلك 4.3 تريليون ريال، وبلغ إجمالي استثمارات الصندوق في القطاعات ذات الأولوية منذ 2021 م 642 مليار ريال، وقد نمت إيرادات الصندوق 25%، لتصل إلى 413 مليار ريال. هذه النتائج الكبيرة للصندوق كانت مدفوعة بالتوسع في حجم أعماله، حيث بلغ عدد شركات محفظة الصندوق 225 شركة، منها 103 شركات أسسها الصندوق. بكل تأكيد هذا النمو والتوسع في أعمال الصندوق أثر إيجابيا في الاقتصاد الوطني. فبحسب التقرير، أسهم الصندوق ب910 مليارات في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بين عامي 2021 و2024. وعلى صعيد الوظائف، خلقت شركات الصندوق الآلاف من فرص العمل في الأعوام السابقة، وتستهدف مئات الآلاف في الأعوام القادمة. أستدعيت هذه النتائج ضمن سياق الحديث عن إمكانات وطنية تم استغلالها على نحو صحيح، من باب المقاربة في محاولة لقراءة المشهد من زاوية معينة، نرى من خلالها كيف لهذا القطاع الوطني أن يقود هذا التجمع من شركات الأعمال ما بين تأسيس أو اندماج أو حتى تأهيل، ليحقق خلال فترة زمنية محدودة لا تتعدى أربع سنوات نتائج مبهرة ذات أثر إيجابي في الاقتصاد الوطني. إذا ما أخذنا شركات القطاع البلدي كتجمع لشركات الأعمال، التي لديها من الإمكانات الاقتصادية ما يفوق ما لدى شركات الصندوق من حيث الأصول أو حتى الخدمات الأخرى، ثم نظرنا إلى الفترة التي استغرقها القطاع البلدي في مرحلة ما قبل الإطلاق (التأسيس)، التي قاربت 15 عاما، فذلك يؤكد فرضية التصحر التي تعتري شركات القطاع البلدي، وتشرح مدي التأثير القوي للعوامل الأربعة التي شكلت تلك البيئة الضارة بقطاع الأعمال الحكومي. فمن باب المقارنة نحن أمام سيناريوهين متشابهين من حيث الهيئة والتكوين، لكن هناك بونا شاسعا من حيث الأداء والنتائج. لنكن منصفين بأن تجمع شركات القطاع البلدي لا يقل ضخامة من حيث الأصول والفرص، ويعتبر عملاقا آخر في فضاء الاقتصاد الوطني، لكنه - للأسف - مقيًد بالبيروقراطية وتنظيمات إدارية قديمة باتت غير نافعة، وبالتالي لا يستطيع هذا العملاق النهوض من تحت وطأة العوامل التي ذكرناها سابقا، وسواها كثير. ولا يمكن تحقيق الأهداف الوطنية الإستراتيجية من هذا التجمع الاقتصادي إلا بتحريره من تلك القيود بشكل كامل، وذلك بنقله لكيان وطني مستقل، يتولى الإشراف على هذا القطاع، وإدارته على نحو سليم خارج أسوار القطاع البلدي. لك أن تتخيل معي - أيها القارئ الكريم - أن هناك ما يقارب 300 بلدية على جغرافية الوطن، فإذا ما أخذنا 50% من تلك البلديات وفق معايير معينة، تراعي في الحسبان حجم المدينة وحجم النشاط الاقتصادي فيها، بالإضافة إلى عوامل أخرى بحيث تنشئ شركة خاصة تعني بإدارة جوانب الاستثمار لتلك البلدية. بالمناسبة سيكون هناك جزء كبير من تلك الشركات بشكل أو بآخر مؤهلا، أو تفرض عليه حالة الطلب تنفيذ أعمال متعددة أو متنوعة، أن تنشئ المزيد من الشركات التابعة والشقيقة. السؤال المباشر هنا: كيف سيكون مشهد الاستثمار البلدي في ظل هذا التجمع الاقتصادي الضخم؟ وهل ستُشكل الشركات البلدية ثنائية استثمارية مع شركات الصندوق ورافدا اقتصاديا آخر؟ قبل الإجابة عن هذا التساؤل، نود أن نذكر القارئ الكريم بأن ذلك كله مبني على افتراض أننا انتقلنا بقطاع الاستثمار البلدي نحو كيانه الجديد والمستقل في مرجعيته، الذي يعتمد أولا على أن شركة البلدية هي من تدير الاستثمار مع الالتزام بتمويل احتياجات البلدية المالية كافة، على عكس ما هو قائم حاليا في القطاع البلدي الذي تشرف فيه على الشركة وكالة الاستثمار في الأمانة. وعودا لإجابة السؤال المتعلق بمشهد الاستثمار البلدي في ظل قيادة تجمع الشركات البلدية، فإنه يمكن تحقيق العديد من المكتسبات الوطنية الكبرى التي نستعرض جزءا منها في السياق التالي: 1. صناعة بيئة استثمارية حقيقية قادرة على جذب رأس المال الأجنبي، وتشجيع رأس المال الوطني على الاستثمار في الكثير من القطاعات، وإشباع حاجة الطلب القائم من تلك القطاعات. 2. إنشاء المزيد من الوحدات الاقتصادية التي ستكون اللاعب الرئيس في صناعة البيئة الاستثمارية. 3. خلق الآلاف من فرص العمل المتنوعة، وتعزيز الاستقرار لطالبي العمل في المناطق التي لم يكن فيها سابقا نشاط اقتصادي مشجع للبقاء. 4. رفع حجم المخصصات الموجهة للوحدات البلدية التابعة لتلك الشركات. 5. الإسهام في تقليص حجم الإنفاق الحكومي الموجه للقطاع البلدي. أما فيما يتعلق بإجابة الشق الآخر من السؤال، فإنه بلا شك عندما تنهض شركات القطاع البلدي للمستوى الذي تكون عنده قادرة على التعاون مع شركات أخرى من خلال أي نموذج عمل، سواء كان ذلك بالاندماج أو الاستحواذ أو المشاركة، فإنه بكل تأكيد سيوجه الصندوق بوصلته أكثر نحو الداخل، ويدخل في تعاون استثماري مع الشركات البلدية. هذا بدوره سيقود إلى نهوض عملاق اقتصادي ضخم سيعود بالنفع على الاقتصاد الوطني. وللتذكير هناك فرص استثمارية كبيرة لدى معظم القطاعات الحكومية، مثل قطاع التعليم والصحة والنقل على وجه التحديد، التي بكل تأكيد ستنخرط في هذا المناخ الاقتصادي الكبير بهدف الانتفاع مما لديه من إمكانات اقتصادية يمكن استغلالها على نحو سليم.