تحمل قِربة الماء العذب برائحة «الشث»، تسابق بخطواتهاإشراقة الصباح يتهادى أمامها إخضرار الحياة فتوقظ بأذن الله بشائر الأمل في دروب قرى أبها الناعسة، ترسم على نوافذ وأبواب منازلها ملامح يوم جديد، شتزف مواكبه تغاريد الطيور، وقطرات الندى، وابتسامات الزهور في وجه الضياء. إنها «المستقية» اسم شعبي كان يُطلقه الناس قبل ثمانية عقود على كل سيدة تنقل الماء بالقِربة من الآبار إلى المنازل كعمل يومي يتطلب الصبر، الأمانة، دقة المواعيد. وتَركَز عمل المستقيات ذلك الزمان، في قُرى أبها المأهولة بالسكان ومنها القرى، مناظر الخشع، نعمان، البديع، مقابل،النصب، المفتاخة، المفتاحة، اليمانية مشيع وغيرها. يقول الأديب الشاعر والتربوي إبراهيم طالع الألمعي في كتابه «من قيم الشعر الشعبي في عسير» الصادر قبل ستة عشر عامًا «المياه في المنطقة كانت شحيحة غير أن الناس متكيفون في صرفهم، وكانت الأيدي تخدم العيون والآبار بشكل يومي، والماء مشاع لا يدخل ضمن ملكية الأرض إلا لمن ملك مزرعة بمائها». وعدد الألمعي الأدوات المتعلقة بجلب الماء ومنها «الدلو وهو وعاء من الجلد لنزع الماء من البئر أما القربة (الداَّوَة) فهي من جلد الماعز أو الضأن المدبوغ، والمشانق من الخوص المفتول تعلق بهما المرأة قربتها بعد ملئها بكتفيها، وهناك الغَرّب مصنوع من وعاء جلدي ضخم لسقيا المزارع من الآبار بواسطة ثور مدرب». والمستقيات يبدأن عملهن مع ربات المنازل بتبادل السلام وتحايا صباحية رقيقة المعاني، موشاة بابتسامات الرضا، تعكس الفرحة بوصول «الماء» رمز الحياة وأمانها. وكان يوجد على كل بئر في الحي خشبة مستطيلة مثبت عليها البكرة والحبال والدلاء إلى جانب حوض كبير يمتليء بالمياه تشرب منه المواشي والدواب والطيور، فهنيئا بالأجر لمن كان السبب بعد الله في حفر تلك الآبار، وسُقيا الناس بالمجان طوال أزمنة عديدة. في كتابه (أقلب ويهك) الذي صدر قبل أربعة عشر عامًا رصد المهتم بالتاريخ الاجتماعي بمنطقة عسير الكاتب عبدالرحمن بن سعيد أبو ملحة مشاهد من رحلة المستقية «أم محمد وابنتها» وقدرتهما على تعبئة وحمل قربتين كبيرتين من مسافة بعيدة، لتصعدان بهما بكل نشاط إلى الدور الرابع في منزل الأسرة وقال: «كنت أشاهد كل يوم ما يزيد على عشرين امرأة يقفن على بئر عتود بوادي أبها يساعدن بعضهن في جلب الماء وسكبه في القرب». واستمرت هذه المهنة حتى مطلع الثمانينيات الهجرية لتبدأ في الاندثار بعد التطور العمراني السريع، وانتشار فكرة الخزانات الأرضية داخل البيوت مع توفر ناقلات المياه بأسعار زهيدة. من جهة أخرى تناول الأستاذ بقسم السنة وعلومها بجامعة الملك خالد، عميد كلية الشريعة وأصول الدين سابقًا، الأديب والباحث الدكتور أحمد بن محمد الحميد بأسلوب أدبي جميل، في إحدى مدوناته أنماطًا اجتماعية مرت على هامش مدينة أبها صنعت جزءًا مهمًا من تاريخها الاجتماعي وكاد النسيان أن يطويها، ومنها «المستقية» وقال: بقامتها المديدة تصدر من البئر عائدة إلى المنازل تحمل قربتها المليئة بالماء وقد شدتها وراء ظهرها، تسمع خضخضة الماء مع كل خطوة تخطوها، لتدلف من باب البيت، وتحل وكاء قربتها في الوعاء الخاص بالماء من زير أو صحاف أو حنفيات. ووصف الدكتور الحميد المستقية بانها شخصية مؤثرةوالجميع في الحي يحتاجون خدماتها، وهي تشبه محطة متحركة توزع الماء على البيوت بلا كلل ولا ملل. والتقط الدكتور أحمد الحميد وسط هذه المشاهد صورة جميلة من نقاء الحياة آنذاك قائلاً: تتوجه المستقية تلقاء أحد البيوت ممن تأنس بأهلها، فإن كانت النوبة في الصباح انتظرتها ربة البيت «بالقروع» من خبز التنور الساخن والسمن والعسل أو السويق، وجميعها من خيرات الأرض. وأضاف: وسط هذه الأجواء تتردد في جنبات المنزل الضحكات البريئة المتداولة بينها وبين ربة البيت ثم تغادر إلى منزلها الصغير الذي لا يتعدى غرفتين وكانه روضة من الرياض، قد صُهر باللون الأخضر. وجُصص أعلى الجدار بالجص، وزُين المكان بالأثاث القليل لكن الذوق والجمال سمة بارزة ورائحة «التناصري» تعبق بالمكان لترعى وتخدم أسرتها، وتوفير احتياجاتهم. المستقية مهنة ما زالت في الذاكرة الشعبية ارتبطت بتاريخ بقيت بعض آثاره إلى اليوم في متاحف المنطقة.