في سرد مربك، مشوق، ومثير، يأخذنا الروائي السوداني عماد البليك في رحلة محفوفة بالفلسفة، ومتخمة بالدمج بين الواقع والتاريخ، لنبحث معه عن مصطفى سعيد، بطل رواية «موسم الهجرة للشمال»، متحديًا ذاك الفهم الذي شاع بأن مصطفى سعيد غرق حين أخذ موج النيل يشده نحو الأسفل، لكنه يقاوم، ويطلق صرخته المدوية «النجدة، النجدة». «البحث عن مصطفى سعيد»، الصادرة عن دار إبييدي القاهرة قبل أيام، هي رواية كاشفة، فاضحة لواقع يتشظى فيه المثقف مثل تشظي وطنه، يتصارع فيها مع ذاته، وعقله، والحقيقي، والمتخيل، كما يتشظى الوطن/ السودان/ بين فرقاء متقاتلين، وبين رصاص لا يعرف من يتلقونه من يطلقه عليهم، ولأجل ماذا؟ وبين ثورات وانقلابات وتغير سلطة وانقلابات الرفاق ما إن يتوسدوا كرسي المسؤولية. لا يبني البليك روايته «البحث عن مصطفى سعيد» متكئًا على تناص مع «موسم الهجرة إلى الشمال»، بل يذهب بعيدًا إلى التفاعل معها على مبدأ المحاورة (Dialogism)، والنص المتجاوب (Responsive Text)، وتقديم رؤية بديلة لمصير «مصطفى سعيد» الشخصية التي حيّرت كثيرين وجعلتهم في تساؤل جاد ودائم ما بين إن كانت متخيلة مصنوعة، وما بين إن كانت مستمدة من تجربة الطيب صالح ومن شخصيات واقعية عايشها وعرفها. يستمر البليك في روايته الجديدة في إرباكنا، ويأخذنا في حوار صريح ومباشر مع مصطفى سعيد الجد، والحفيد، ويمنحنا سردًا لنهاية محتملة بديلة لمصطفى سعيد بشكل مختلف، وهو يتتبع مصير نجليه اللذين خلفهما وراءه حين أحرق كل شيء وقفز إلى النهر، لكنه وبذكاء سردي مدهش يقودنا إلى السر، كأنما يريد لنا أن نؤمن أننا نهدر الوقت في الوهم حين ندعي أو نظن أننا نبحث عن الحقيقة، ففي الصفحة 270 من روايته يكتب «نعم، هي قصة في النهاية.. كلها قصص، سرديات، حكايات يا بني.. ولهذا يجب ألا نضيع الوقت في البحث عن أوهام.. أو بالأحرى عن ظلال. فنحن لا نفعل سوى تتبع الظل، ظنًا منا أنه الحقيقة؟ لكن في الواقع.. ليست هناك حقيقة مطلقة». لعنة التاريخ يبدو «البحث عن مصطفى سعيد» مراوغًا، حتى في العنوان، ففيما يقودنا ويثير غريزتنا وفضولنا كقراء لمعرفة مصيره، يجبرنا البليك بين السطور على تلمس ذاك القلق الوجودي لبطله «محمود سيد أحمد»، ويأخذنا معه في رحلة متاهة عقلية فلسفية تخلط ما بين الواقع والوهم، واللامعقول والخيالات، والتاريخ والذكريات، والاغتراب في الوطن وفي المهجر، ومن خلال ذلك القلق يسرّب إلينا تلك الأسئلة الفخمة المتعلقة بالهوية، وبالوطن، وبالانتماء، وخيانات الحرب والعسكر، والانتهازية، والإقصاء، كما يبحر بنا في محاولة إيجاد معنى في واقع يضج بالخراب، وبالأحلام كذلك، ويصبح البحث فيه عن الهوية لهاثًا لا يتوقف، وتبدو الثوابت فيه مثل بيت بلا أعمدة تضربه موجات ارتدادية لزلازل لا تعرف الهدوء، وتبدو اللعنات فيه سلسلة لا تُكتب لها نهايات، وهو يكتب في الصفحة 24 بعد استعراض خاطف لتكرار المآسي والحروب التي طالت بلاده: «كأن لعنة التاريخ في هذا البلد أبدية.. لا بد لكل دورة أن تقود لأختها». لكنه من خلال الحديث عن التاريخ يغوص عميقًا في الفلسفة التي تبدو ثيمة أساسية في «البحث عن مصطفى سعيد»، كما كانت في معظم أعماله الروائية، فهو يرى أن «الفلسفة هي سؤال الإنسان المستمر لإدراك المعنى ومحاولة ترتيب العالم»، وأن «هذا ما تقوم به الكتابة كفعل فلسفي»، ومن هنا يمكننا فهم ما ذهب إليه بطله في هذه الرواية خلال بحثه عن الذات، حيث يخلص في بعض لحظات اليأس إلى أنه: «لهذا كان عليه امتهان العبث بوصفه ما يحكم العالم» ص30. لعبة سردية مدهشة يمارس البليك لعبة سردية مدهشة في «البحث عن مصطفى سعيد»، وهو يجيب فيها صراحة، وفي الصفحة 272 عن تساؤل: لماذا يكتب هذه الرواية أصلا، فيقول: «كان لدي تساؤلات.. من هو مصطفى سعيد؟ ولما كتب الطيب صالح هذا العمل؟ القصة كلها في جوهرها محاكمة لذلك الخيال. البعض فهم الأمر بشكل خاطئ، وأعتقد أنني أحتفي بالطيب، أو بمصطفى سعيد. أنا لم أفعل ذلك، ولن أفعله. أنا أحاكم الرواية القديمة، وأعارضها.. لأكتب قصتي أنا، في متني الخاص». ولا يكتفي البليك باستدعاء شخصية من رواية صدرت قبل نحو 60 عامًا، فيحاورها وينقدها ويتحداها ويتقاطع ويختلف معها، ولا بمحاولة بناء نص جديد يعكس وعي الجيل الحالي وتحولاته، ولا برسم نهاية بديلة لها، بل يذهب بنا أبعد حيث يقحم نفسه في الرواية.. يعلن عن عنوانها.. ولماذا كتبها؟ ويتنصل من الإجابات حين تطرح عليه الأسئلة فلا توافق ما يريد كشفه إلا في حينه، وهو يجعل من نفسه شخصية في روايته، حيث يكتب في الصفحتين 267، 268: «في أحد مقاهي لندن»... «سألتقي رجلًا سودانيًا ليس غريبًا عني، سبق أن رأيت صورته في أحد أغلفة المجلات، أو ربما على موقع إلكتروني، أو على فيسبوك. لست متأكدًا. ما أنا متأكد منه، أنه مؤلف رواية «البحث عن مصطفي سعيد» الرجل الذي إن شاء قد يحل لي الألغاز، وقد يكون مزاجيًا ويرفض أن يفصح عن شيء».. ويذهب البليك أبعد وأبعد حين يجري حوارية في صفحتين أو ثلاث تاليات بينه كمؤلف للرواية وبين بطلها «محمود سيد أحمد». ولا تقتصر الألعاب السردية على كل هذه التداخلات، فثمة تنقلات في الزمان، والمكان، والأحداث، والشخوص، والمتخيل، والواقعي، واللامعقول، والمنطقي، وكل ذلك بحرفية لاعب ماهر، يمسك خيوط عمله السردي مثلما يفعل محرك دمى ماهر، فلا يفلت منه خيط، ولا تسقط منه حركة.