في خضم سباق الأمم نحو توثيق ذاكرتها وصياغة روايتها التاريخية، تبرز إشكالية الأرشيف العربي والخليجي بوصفها معضلة ثقافية ومعرفية واقتصادية في آنٍ معًا. ففي وقت أصبحت فيه الأرشفة صناعة قائمة بذاتها تدرّ عوائد مالية، وتغذي الوعي الوطني، ما زال أرشيفنا يعتمد على الذاكرة الشفهية أكثر من اعتماده على التوثيق المكتوب والمنهجي، ما يضعنا أمام فجوة خطيرة بين الحاضر والماضي، وبين الهوية والمرجع. المجتمعات العربية، وعلى رأسها الخليجية، طالما اعتمدت على السرد الشفهي في نقل القصص، والتاريخ، والمعرفة. صحيح أن هذا جزء من التراث الثقافي المهم، إلا أن الاعتماد عليه كوسيلة أرشفة وحيدة يمثل ضعفًا في بناء الهوية التاريخية المؤسسية. فهذا يغيب التوثيق المؤسسي حيث لا تزال الكثير من الأحداث السياسية، والتحولات الاجتماعية، والمواقف الوطنية محفوظة في الذاكرة الفردية أو في مقابلات مجتزأة، دون أرشفة منظمة يمكن العودة إليها بحثيًا أو ثقافيًا. ما يصعب الوصول للمعلومة، فالباحثون والمثقفون يواجهون صعوبة كبيرة في الوصول إلى مصادر موثوقة ومحفوظة بطريقة منهجية، ما يضعف من جودة الدراسات والمحتوى الإعلامي. في العالم المتقدم، لم يعد الأرشيف مجرد رفوف للكتب أو الوثائق، بل صناعة معرفية من خلال إنتاج الأفلام الوثائقية، والمسلسلات التاريخية، والمحتوى الرقمي المعتمد على أرشيفات دقيقة. كما أنه يمثل دخلًا اقتصاديًا مهمًا فالعديد من المؤسسات الأرشيفية تدر أرباحًا عبر بيع حقوق الصور، الوثائق، والأفلام النادرة للمؤسسات الإعلامية وصناع المحتوى. وكذلك أداة للسياسة الناعمة لأن الأرشيف يوظف في تثبيت الرواية الوطنية، وبناء صورة الدولة في الخارج، وتأكيد حقوقها في القضايا الإقليمية والدولية. لمواجهة هذه الإشكالية، من الضروري أن تتبنى الدول العربية والخليجية مشاريع أرشفة وطنية رقمية شاملة تشمل رقمنة الوثائق القديمة والمخطوطات. وتسجيل الروايات الشفهية وتوثيقها علميًا. وإنشاء منصات إلكترونية مفتوحة تسهّل الوصول للأرشيف. الأرشيف ليس مجرد ذاكرة وطن، بل هو أداة لبناء المستقبل وتعزيز الهوية الثقافية والاقتصادية. استمرارنا في الاعتماد على الرواية الشفهية وحدها يعني أننا نخسر فرصًا لا تُقدّر بثمن: علميًا، اقتصاديًا، وسياسيًا. آن الأوان لأن ننتقل من ثقافة الحكاية إلى ثقافة التوثيق، ومن الاستماع إلى السرد إلى استثمار الأرشيف.