ذات زمنٍ، كان الراوي يجذب الانتباه بحكاياتٍ حيكت من خيوط الذاكرة الجمعية، يرويها بصوته المتدرّج، وإيماءاته المتقنة، وعينين تحفظان الأحداث أكثر من أي كتاب. كان وسيطاً بين الماضي والحاضر، يحمل في صوته نبض التاريخ، وفي كلماته صدى الهوية. واليوم، رغم تغير المجلس، وتبدل الوسيط، واحتشاد المنصات الرقمية، لم تنتهِ الحكاية. لقد عاد الراوي، لكن بثوبٍ جديد؛ إنه صانع المحتوى، الذي يجلس خلف عدسة، لا خلف منبر، ويتحدث إلى الآلاف، لا العشرات، مستخدماً أدوات العصر لخدمة الذاكرة الأولى. لقد أعاد الإعلام الرقمي تشكيل علاقتنا مع التراث. لم يعد الوصول إليه محصوراً في المتاحف أو الكتب أو الرواية الشفهية، بل أصبح متاحاً بنقرة، مسموعاً ومرئياً، مشروحاً وموثقاً. هذا التحول أتاح فرصة ثمينة لإعادة اكتشاف التراث، لكنه في المقابل، فرض تحديات تتعلَّق بالمصداقية، والانتقائية، وسرعة الاستهلاك. أصبحت الساحات مفتوحة لسرد القصص الشعبية، عرض الفنون التقليدية، وإحياء العادات المنسية. أضحى التفاعل آنياً، والمحتوى قابلاً للمشاركة، والنقاش، وحتى التطوير من قِبل الجمهور متاحاً. وسع الإعلام الجديد رقعة التفاعل، لكنه حمل معه تحدياً في الحفاظ على الأصالة، فالموروث الثقافي ليس فقط ما يُعرض، بل التفنن في طريقة عرضه. هنا يبرز دور صانع المحتوى الواعي، القادر على أن يُعيد تقديم التراث بلغة معاصرة دون أن يُفرغه من قيمته أو يختزله في نمطية استهلاكية عابرة. لم تعد صناعة المحتوى التراثي فعلاً مؤسساتياً، بل أصبح مسؤولية مشتركة بين الباحث، والمبدع، وصانع المحتوى، وهذا يتطلب إدراكاً عميقاً للدور الذي يلعبه كل فرد في حفظ الذاكرة الثقافية. هذا التحول الرقمي يتيح للتراث أن يُخلَّد، كمحتوى محفوظ، ومتداول، يُعاد إنتاجه، ويُشارك، ويُحاور ثقافات أخرى. ومع ذلك، يبقى التحدي في أن يكون التوثيق دقيقاً وأميناً، فالمسؤولية هنا مزدوجة، بين الحفاظ على المعلومة الصحيحة، وتقديمها في قالبٍ جاذب لا يفقدها خصوصيتها. إنَّ حمل التراث إلى المستقبل لا يقتصر على نقله من جيلٍ إلى آخر، بل يتجاوز ذلك إلى إحيائه، وتفعيله كعنصر حيٍّ في وجداننا المعاصر. هو ليس تمجيداً لما مضى، بل دمجٌ لما كان في تفاصيل ما هو كائن. فالصوت يعيد الحياة للَّهجة، للإيقاع الشفهي الذي لا تكتبه الكلمات. الصورة تمنح تفاصيل الملبس، الحرفة، الألوان. أما النص فهو خيط المعنى، الرابط بين الشكل والمضمون، وهو ما يمنح الرسالة وضوحها وعمقها. حين تُوظف هذه العناصر بوعي، يتحول المحتوى من مجرد توثيق إلى تجربة ثقافية متكاملة.