الشيء الذي يدهشنا للوهلة الأولى في الاستشراق المتخصص بالإسلاميات هو أن تأكيد هويته الأوروبية معلن ككتلة واحدة في مواجهة إسلام أحادي الجانب وثابت ودائم، بمعنى أن الإسلام لا يمكن أن يقبل بالتعددية أو بالتطور بحسب رأيهم. وهكذا نهضت كل من المسيحية والعلمانية المعاصرة على التوالي لكي تتهما الإسلام إما بنقص الروحانية فيه، وإما بالجمود الثيوقراطي! وهكذا نجد أن المستشرق الكلاسيكي هو أكثر الناس غربية وتعلقاً بالقيم الغربية، أنه أكثر غربية من المفكرين الأوروبيين الآخرين غير المتخصصين بالاستشراق. يحصل ذلك كما لو أن احتكاكه الطويل مع ثقافة أخرى غير ثقافته يجعله ينفر ويشعر بتمايزه واختلافه بشكل حاد أو أكثر من غيره. ولما كان يشعر بالقلق خوفاً من فقدان هويته أو ذوبانه في غيرية «أدنى مرتبة» فإنه يلح أكثر على تأكيد هويته وانتمائه الأوروبي أو الغربي. والواقع أن الاحتكاك الثقافي يولد دائماً نوعاً من المأساة. إنها مأساة أنطولوجية وعامة ناتجة من الاختلاف بين البشر. وهي مأساة وجودية وفكرية عندما تعاش من قبل فرد واحد. وإذا كان الاحتكاك سطحياً فإنه يؤدي إلى الشعور بالغرابة. وإذا كان عميقاً فإنه يهدد بذوبان الأنا في الآخر وبتفكك تماسكه وبانهيار يقينياته وبتصادم القيم. فهل يلجأ المستشرق الكلاسيكي للارتماء بكل ارتياح في أحضان هويته الأوروبية المتخذة ككتلة واحدة من أجل تحاشي هذا الخطر؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال، وفي وقت نجد أن المثقف النقدي يشك في مجتمعه الخاص، وأن عالم الإثنولوجيا يحاول أحياناً الهرب منه، فإننا نجد المستشرق يؤكد تفوق المسار الأوروبي ونموذجيته. وهكذا يسجن الإسلام في مواجهة حضارية وجهاً لوجه مع الغرب. وهكذا لا يعود تاريخ الإسلام يجري بحسب ديناميكيته الخاصة إنما بصفته انعكاساً شاحباً ومقلوباً لديناميكية الغرب وتاريخه. ولكي نضرب مثالاً كبيراً على ذلك، أي النبي محمد ذاته، فإننا نلاحظ بصورة ضمنية أن شبح المسيح يتراءى خلف أي تحليل لشخصيته على يد المستشرقين. فإذا كان محمد غير صادق (على فرض أنهم يطرحون صدقه أو عدم صدقه على طريق التساؤل!) فذلك لأن المسيح كان صادقاً! وإذا كان يمارس تعدد الزوجات ويميل للنزعة الحسية أو الجنسية، فذلك لأن يسوع كان عفيفاً طاهراً، وإذا كان محارباً وسياسياً فإنه يختلف عن يسوع المسالم والمهزوم والمصلوب... وهكذا ينبغي أن ينالوا من نبي الإسلام بأي شكل. إن الشيء التناقضي في الاستشراق المتخصص بالإسلاميات هو أنه يقع على هامش الجسد المركزي للتراث الفكري الغربي ثم يطرح نفسه في الوقت ذاته بصفته الناطق الرسمي باسم الغرب! ولهذا السبب فإن القطاعات المستغربة بصورة صحيحة وأصيل من الوعي العربي سواء كان ذلك في رؤياها الأيديولوجية للعالم أم في تكوينها المنهجي يمكنها في الأقل أن تحتج عليه وتعده نتاجاً غير أصيل للغرب. ويمكنها في أحسن الأحوال أن تعده لحظة معينة من لحظات الكون والتاريخ كانت فيها الروابط بين الشرق والغرب خاضعة للأيديولوجيا الاستعمارية. وأما من الجهة الأخرى فإننا نجد الوعي العربي الخالص يبطل المسار الاستشراقي (أو الاستشراقوي) ويعده مساراً خارجياً على العروبة وعاجزاً عن فهم أعماقها وشريراً في مقاصده ونياته. ومن هنا ينتج غموض الوضع الذي يجد المستشرق نفسه محشوراً فيه. فهو لا يعرف في نهاية المطاف إلى أي جمهور يتوجه. وأما الغرب في غالبيته الكبرى فإنه لا يهتم بالإسلام إلا بصفته قطاعاً هامشياً من كينونته. ولهذا السبب فإن المستشرق عندما يتوجه إلى الجمهور الغربي فإنه يبسط الأمور ويبتذل ويخفض من قيمة معرفته. وهكذا تنهار الأعمدة القائمة لعالم بأسره أو تفقد معناها وطابعها المركزي ومهمتها الأساسية. ويزيد من تفاقم كل ذلك التأكيد الساذج على الأنا الغربية. وأما عندما يتوجه المستشرق إلى الجمهور العربي المحض فإنه يدخل على العكس في صميم الموضوع. فما كان هامشياً أصبح مركزياً، وما كان ثانوياً أصبح أساسياً. ولأنه ليس للبشرية وطن موحد، فإن علم المجتمعات والثقافات الخصوصية وفي مقدمها علم التاريخ لا يمكنه أن يكون مجرداً أو إفراغياً. ولكن لهذا السبب بالذات فإننا نجد المستشرق يجرح باسم العلم وبشكل فج واقتحامي، وأحياناً بشكل حاقد (كما يفعل لامنس مثلاً) شيئاً لا يمثل فقط مادة جامدة للمعرفة، وإنما هو أيضاً حقيقة حية ومضطلع بها ومحبوبة ومشحونة بآلام البشر وإخلاصهم. إنه يمس النواة المركزية والأكثر عمقاً، هذه النواة التي تشكل أساس الهوية العربية الإسلامية. ومن هنا تنتج هامشيته الأخرى، ولكن بالقياس إلى الشرق هذه المرة، ولكنها ليست هامشية الموضوع هذه المرة، وإنما هامشية المسار والمنهج. ولولا هذا الارتياب المتبادل لاستطاع الاستشراق أن يسهم في نزع الأسطرة عن مرحلة الإسلام البطولي، مثلما أسهم علم التفسير الليبرالي الأوروبي في نزع الأسطرة عن الأزمنة التوراتية والإنجيلية أو عن تاريخ المسيحية. في الواقع أن للعلم قدرة على الحت والقرض. 1995* * كاتب وباحث أكاديمي تونسي «2021-1935».