ليست كل الكائنات خُلقت لتنجذب إلى ما هو نقيّ وعذب، ثمة من يضيق بالجمال، ويختنق بالعطر، ويجد راحته في مواطن التلوث. الذبابة إحدى تلك الكائنات. كأنها تنتمي إلى عالمٍ مضادٍ للصحة والجمال، تمرّ على بتلات الورد فلا تُغريها، وتغوص في عبير النعناع دون أن ترتوي، ثم تهبط - بثقة عمياء - على قشرةٍ متعفنة، كأنها عثرت على جنتها المنشودة فاستقرت. لماذا تختار القمامة؟ لأنها لا تعرف غيرها. لأن ذاكرتها قصيرة، لا تسعفها بتفاصيل الضوء، ولا تحتفظ بشيء من عبير الرحيق. كأنها لا تطيق النقاء، ولا تستقر إلا في محيط الخراب. وللأسف، بيننا من يحمل الروح ذاتها... ذبابة إلكترونية أو اجتماعية. لا ترى في وطنها إنجازًا، ولا في مجتمعها خيرًا، ولا في الناس فضلاً. تدور وتدور، لكنها لا تحطّ إلا على زلةٍ هنا، أو هفوةٍ هناك. تغضّ الطرف عن وطن يُعيد رسم ملامحه بحبر الإنجاز، وعن مدنٍ تنمو كالحلم فوق أرض كانت بالأمس فراغًا، وعن طموح يُشيّد المجد حجرًا فوق حجر. لا يشغلها التقدّم،ولا يُدهشها البناء، فذاكرتها لا تتّسع لصورة الوطن الكاملة. إنها ذاكرة مشوّهة، تقتنص العثرة، وتنفخ فيها، ثم تعيد تدويرها حتى تتلبّس هيئة الحقيقة في أعين من يتلقّون منها. تغرّد؟ نعم. تعلّق؟ كثيرًا. تصوّر؟ بلا توقف. لكنها لا تُلهم، لا تبني، ولا تترك أثرًا يُذكر. وإذا انتقلنا من المشهد العام إلى عمق العلاقات الإنسانية، لم نعد نرى الذبابة، بل نسمع طنينها في هيئة أشخاصٍ يتغذّون على الزلات، لا يحتفظون في ذاكرتهم إلا بسقطات الآخرين. يعيشون في أرشيف قديم، مهجور من الأخطاء، يعيدون فتحه وتصفّحه كلما التقوا بك، لا لشيء، سوى لإحياء جراحٍ لا تندمل، أو لإفساد السلام النفسي الذي تعيش فيه. لكن، هل هذا هو قدرنا؟ أن نحيا بعقولٍ قصيرة الذاكرة،ضبابية الرؤية، لا تميّز بين الكنز والنفاية؟ بالطبع لا. لدينا عقولٌ تُفكّر،وقلوبٌ تُنصف،وأخلاقٌ تُوجّه. واختيارنا لما نُسلّط عليه الضوء، هو اختيارنا لما نصبح عليه. نحن البشر، نحتاج أن نرتقي بذاكرتنا، أن نبصر الجمال، ونحتفي بالنجاح، أن نمسك المجهر لا لنفتّش عن الخلل، بل لنكتشف الدقة والجمال في التفاصيل. فالحياة أكبر من خطأ عابر، والوطن أوسع من تغريدة مغلوطة.