تخوض إسرائيل أبشع المعارك السياسية مع من كانوا، حتى أمسٍ قريب، حلفاء ومؤيدين وداعمين ومدافعين عن حربها، بل عن استمرارها في حربها إلى أن بلغت، كما يقولون الآن، حدًّا «غير مقبول». والواقع أنها تجاوزت هذا الحدّ منذ زمن، والهدنة الأولى (في نوفمبر 2023) كان ينبغي أن تكون الأخيرة، بعدما نفّذت انتقامها من هجوم «طوفان الأقصى» بحصيلة كبيرة من القتلى والدمار. وفي حدٍ أقصى كانت هذه الحرب قد انتهت قبل عامٍ من الآن، كما ينبّه العديد من المحللين، تحديدًا عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن مبادرة قال إن إسرائيل اقترحتها (ثم أقرّها مجلس الأمن)، لكنها استخدمتها لمواصلة الحرب، وأفشلت كل محاولات إبرام صفقة برفضها فكرة إنهاء الحرب، ولا تزال ترفضها. يشتد السجال الكلامي بين إسرائيل ودول أوروبية، لأن الرأي العام العالمي بات يستنكر حربًا سقطت فيها كل الضوابط، الأخلاقية والقانونية والسياسية، وأصبحت فعليًا، علنًا ومباشرةً على الهواء، في مسار «الإبادة الجماعية». لم يعد استخدام هذا المصطلح يستدعي الحذر، إلا من جانب الحكومات، فمئات المثقفين والفنانين البريطانيين طالبوا رئيس الوزراء بفرض عقوبات على إسرائيل، وأنهوا رسالتهم إليه بهذه العبارة: «نحن شهود على جرائم الإبادة الجماعية، ونرفض إقرارها بصمتنا». المستشار الألماني لم يشارك في انتقاد إسرائيل لكنه، بعد صمت واتصالات معها لإنهاء الحصار التجويعي لأهل غزة، قال «لم أعد أفهم ما الذي تريده إسرائيل»، بل يفهم جيدًا أن «الدعم المطلق» الذي وفّرته دول الغرب بات «فخًا» تستخدمه إسرائيل ضدّها. وزير الدفاع الإسرائيلي اتهم الرئيس الفرنسي بشنّ «حرب صليبية» ضدّ بلاده، وهدده بأنه إذا اعترفت فرنسا بدولة فلسطينية فإن إسرائيل ستضمَ الضفة الغربية وتعلن «الدولة اليهودية». لم تعد المطالبة ب«فرض عقوبات» على إسرائيل من المحرّمات السياسية لدى أحزاب ومنظمات أوروبية. شرح أحد النشطاء أن البيانات والتظاهرات دعت على مرّ ال20 شهرًا إلى وقف إطلاق النار وتجنّب إيذاء المدنيين، لكن إصرار إسرائيل على مواصلة الحرب وقطعها الغذاء لتجويع السكان وتعمّدها قتل الأطفال لا يمكن أن يواجه إلا «بعقوبات تبدأ بقطع الإمدادات العسكرية». لكن هذه الدعوة جاءت متأخرة، فإسرائيل تعتقد أنها أصبحت في الفصل الأخير من تطبيق منطقها في الحرب وتحقيق أهدافها، وباتت وحشية ردود فعلها السياسية متطابقة مع وحشية آلتها الحربية، فهي تُظهر استعدادًا للذهاب إلى أقصى حدّ بعدما جعلت من جنودها قتلة لا مقاتلين ومن غزة حقلًا للقتل العاري المباح. جاء رفض إسرائيل زيارة الوفد الوزاري العربي لرام الله، برئاسة وزير الخارجية السعودي، معبّرًا عن أن انشغالها بمشاريع الإبادة وضم الضفة واحتلال القطاع لا يترك أي فسحة للديبلوماسية. قالت إن زيارة الوفد العربي للسلطة الفلسطينية تشكّل «استفزازًا» وحتى «تحدّيًا»، لكن رفضها أظهر وجهًا إسرائيليًا ربما فاجأ أيضًا «الحليف الأكبر» الأمريكي. وفي أي حال شهد الأسبوع الماضي سقوط أي أوهام حول ضغوط دونالد ترمب على إسرائيل، أو ما قيل عن «سأمه» من بنيامين نتنياهو. عرض المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف صيغة اتفاق على حركة «حماس» فوافقت عليها، لكن إسرائيل رفضتها وطلبت منه تعديلها ولما فعل سارعت خلافًا للعادة إلى إعلان قبولها، وكان ذلك كافيًا كي ترفضها «حماس». الصيغة الأولى كانت تنصّ على هدنة تتخللها «مفاوضات لإنهاء الحرب» مع ضمانات من الولاياتالمتحدة ومصر وقطر، وفي الثانية بقيت المفاوضات وزالت الضمانات، وأُضفي غموض على بند الانسحاب. ونجح نتنياهو مرّة أخرى في إحباط إمكان التوصّل إلى صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، كي ينقذ قرار حكومته بمواصلة الحرب التي دخلت مرحلة يرفضها الحلفاء الغربيون (باستثناء الولاياتالمتحدة)، إذ زادها التجويع والقتل اليومي اقترابًا من «الإبادة الجماعية» كما تعرّفها الأممالمتحدة والقوانين الدولية. عانت مفاوضات الهدنة، منذ بدايتها، من خلل لم يستطع الوسطاء إصلاحه، فحتى بعدما سمحت البرغماتية للوسيط الأمريكي بإجراء اتصال مع «حماس» ظل التفاهم الأمريكي- الإسرائيلي على الهدف النهائي- وهو القضاء على «حماس»- كفيلًا بتعطيل أي اتفاق. طوال المفاوضات كانت «حماس» تعرف أن القضاء عليها «قرار دولي» مقدار ما هو إسرائيلي، لكنها ظلّت تسعى إلى اتفاق يعترف بها ولو ك«سلطة أمر واقع» في القطاع، ورفضت كل الصيغ التي تتجاهل شرط إنهاء الحرب، واستبعدت مناقشة أي أفكار عن نفي قادتها وتسليم سلاحها، وتحوّل ما تبقى لديها من رهائن وسيلة بقاء لم تعد مجدية. وفي المقابل فقدت القدرة على مواجهة السيناريو الذي صممته إسرائيل لفرض تهجير سكان غزة، سواء بالضغط العسكري لتوسيع الاحتلال وإخلاء المناطق كافة، أو بالتجويع واستبعاد الأممالمتحدة عن مهمة توزيع المساعدات. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»