لا يقطع الإرجاف إلا أهل اللسان، وأرباب الإنصاف، فحب الوطن شعور فطري ينبع من القلب، وهو أساس الانتماء والولاء؛ فالوطن هو القلب الكبير الذي يضمنا جميعًا وننتمي إليه، ويمثل هويتنا وتاريخنا وثقافتنا، فهو كالأم الحنون والأب الساهر على أبنائه، وحمايته مسؤولية مشتركة تقع على عاتق كل مواطن صالح، بل واجب مقدس يتطلب منا بذل الغالي والنفيس، كل في مجال تخصصه. وكل متخصص في المجتمع هو جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني، ودوره في حماية الوطن والمجتمع من الفتن يتجلى في جوانب عديدة تتكامل؛ لتحصين المجتمع ضد أي محاولات لزعزعة استقراره. واللسانيون ومحللو الخطاب حريصون على أن نكون في مقدمة الصفوف التي تتصدى لظاهرة الإرجاف الذي صار يمارسه كثيرون؛ بهدف التأثير في العقل الجمعي لأبناء المجتمع؛ لينحرفوا به عن الجادة، ولزعزعة الثقة بينه وبين قادته، وتهديد الأمن الوطني؛ ليحققوا مكاسب خاصة، أو عملاً بأجندات خارجية. وفي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الخطاب الإرجافي ينتشر بسرعة كبيرة، مما يتطلب وجود خبراء متخصصين في تحليله والتصدي له وليس مجرد الحديث عنه؛ لنسهم في حماية المجتمع من الانحراف والتشويه، والحفاظ على أمن الوطن. ومن الجدير بالذكر أن التحليل اللساني أداة حيوية في مكافحة الإرجاف، وسوف أتناول مجموعة من الركائز تصلحُ أن تكون انطلاقة لذوي الاختصاص تعزز من تطوير قدرات المختصين في مجالات الجرائم السيبرانية؛ لاكتشاف الأدلة الرقمية بمختلف تصنيفاتها، وإعداد كوادر أمنية مؤهلة تتواكب مع التحديات الموازية؛ لدعم عملية اتخاذ القرار الأمني. - الركيزة الأولى: تحليل الخطاب الإرجافي: بالكشف عن التلاعب اللغوي؛ حيث يمكن تحليل المفردات والتراكيب اللغوية المستخدمة في الكلام، لإماطة اللثام عن الأساليب التي يتم بها التلاعب بالمعاني، ونوضح الألفاظ التي استخدمت لإثارة المشاعر، والتعميمات، والتشويهات اللغوية، وكذلك يمكن في تحليل الخطاب تحليل الأساليب اللغوية المستخدمة وأوجه التشابه في الخطاب الإرجافي سواء في العالم المادي أو الافتراضي، مثل: التضليل، والتورية، والتحريف. - الركيزة الثانية: التحليل النفسي للشخصية؛ فالتحليل النفسي للمتحدث يلعب دورًا مهمًا في الكشف عن الإرجاف، حيث يساعد في فهم الدوافع الخفية وراء نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة، وإظهار الأنماط السلوكية التي تدل على الإرجاف، فتفضح النوايا الخفية للمرجفين، مثل الرغبة في إثارة الفتنة، أو زعزعة الاستقرار، أو تحقيق مكاسب شخصية، كما يساعد تحليل الشخصية على فهم الأسباب التي تدفعهم لذلك، ويمكننا تحديد السمات النفسية التي تدفعه إلى الإرجاف، مثل العدوانية، أو النرجسية، أو الشعور بالنقص، ونوضح كيفية تأثير هذه السمات على سلوكه، مثل نشر الإشاعات بشكل متكرر، أو ترويج الأخبار الكاذبة، للكشف عن الأنماط السلوكية التي تدل على الإرجاف. - الركيزة الثالثة: تحليل لغة الجسد، حيث يقوم المحلل اللساني بتحليل لغة جسد المتحدث فيكشف عن مقاصده، وإيماءاته ويقارنها بسياق الكلام، عن طريق تفحص حدقة العين، والتدقيق في تعابير الوجه، ومقارنة حركات اليدين في المواقف المختلفة، ونبرة الصوت؛ لإبانة التوتر أو الخداع، وتحديد ما إذا كان المتحدث صادقًا أم يحاول إخفاء الحقائق. فتحليل لغة الجسد تشمل السلوكيات اللاإرادية التي تعبر عن المشاعر والمواقف الداخلية، وقد لا يكون الشخص واعيًا بها؛ فيمكن لهذه السلوكيات أن تفصح عن المشاعر الحقيقية والميول الخفية للإنسان. من خلال تحليل لغة جسدهم ونظرات أعينهم الكشف عن محاولاتهم الخبيثة في إرسال رسالات سلبية تجاه الوطن وأهله، وكذلك يتم فحص الرموز واللوحات والصور التي يرفعونها، أو الخلفيات التي يضعونها في مجالسهم أو الرسوم التي يظهرونها في لقاءاتهم، فكل تلك العناصر تنطق بحقائق قد تخفيها الألفاظ ولا تعبر عنها، فليس شرطًا أن يصرح هؤلاء بما يقولون فقد تحكي صورتهم وطريقتهم عمّا بداخلهم من حقد. - الركيزة الرابعة: تنمية التفكير النقدي لدى الجمهور وأبناء الوطن؛ فلا يُسلم الشخص لكل متكلم ولا يتبع كل ناعق حتى نعرض ما يقول على مبادئنا وقيمنا وعاداتنا؛ فنحرص على التفكير النقدي، وعدم تصديق الإشاعات والأخبار الكاذبة دون التحقق منها والتثبت، ونعمل على تنمية الوعي الذاتي لدى الجمهور، وتمكينهم من فهم أساليب المرجفين، وطبيعتهم. الركيزة الخامسة: تحليل سياقات الكلام للكشف عن مقاصد المتحدثين؛ يقوم المحلل اللساني بتحليل السياق الذي أُنتج فيه الخطاب؛ لتحديد الأهداف الخفية التي يسعى المرجفون إلى تحقيقها، فيكشف عن النوايا الخبيثة التي تكمن وراء نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة، أو نشر السلبيات، من خلال تفكيك الإشاعات والأخبار الكاذبة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتم التحقق من مصادر المعلومات، وتحديد مدى مصداقيتها، والعمل على تعرية وإبطال وفضح التناقضات الموجودة في الخطاب الإرجافي، بل يتم كيف يتم تضليل الجمهور؟ الركيزة السادسة: التحليل الإحصائي: حيث يمكن من خلال تقنيات التحليل الإحصائي لتحليل النصوص والمفردات والأساليب معرفة هوية المتحدث وأيدولوجياته، والكشف عن الأنماط المشبوهة. الركيزة السابعة: الدعم المؤسسي، حيث يقوم المحلل اللساني بدور مهم في دعم مؤسسات الدولة، سواء أكانت الأمنية، أو الإعلامية، أو التعليمية، أو البرامج التي تقدم على المواقع والفضائيات، والقنوات والخطب في محاولة التوعية باستخدام الخطاب اللغوي الإيجابي المعزز لقيم الانتماء، والكاشف لطرائق المنحرفين، واستخدام اللغة بشكل مسؤول، وتعزيز الحوار البنَّاء بين مختلف فئات المجتمع، وتقديم الاستشارات للمؤسسات المعنية، مثل الدراسات الأمنية، ومركز أبحاث الجريمة، والجهات ذات الاختصاص، حول كيفية التعامل مع الخطاب الإرجافي، والتصدي لخطاب الكراهية والتحريض على العنف والفتن. الركيزة الثامنة: تحليل اللاوعي: لا يمكن أن نهمل فكرة اللاوعي في تحليل الخطاب سواءً مكتوبًا أو مسموعًا؛ لأنه يكشف عن فكر الإنسان وميوله وسلوكياته من خلال مجموعة متنوعة من الآليات، وغالبًا ما يكون ذلك بطرق غير مباشرة، كزلات اللسان والهفوات، تعتبر زلات اللسان والهفوات علامات ودلائل على ما في القلوب والعقول وبخاصة متى تكررت، مثل قول شيء غير مقصود، أو فعل شيء غير متوقع، تعبيرًا عن أفكار ورغبات مكبوتة في اللاوعي، فيمكن لهذه الأخطاء أن تكشف عن المشاعر الحقيقية والميول الخفية للإنسان. الركيزة التاسعة: التداعي الحر؛ حيث يمكن عن طرق ملاحظة عملية التداعي الحر للكلام، وهو تقنية تحليل نفسي تتضمن قول كل ما يتبادر إلى الذهن دون رقابة أو توجيه، حيث يسمح التداعي الحر للاوعي بالتعبير عن نفسه بحرية، مما يكشف عن الأفكار والمشاعر المكبوتة، وهذه نرصدها في ظروف معينة، كوقت الغضب، أو الحزن، أو السخط التي يكثر فيها التداعي الحر. الركيزة العاشرة: استخدام الاختبارات الإسقاطية، حيث تساعد على التحليل النفسي والعقلي للأشخاص مثل اختبار بقع الحبر لرورشاخ، يتم فيه عرض عشر بطاقات، خمس منها باللون الأسود والأبيض، واثنتان باللونين الأسود والأحمر، وثلاث متعددة الألوان، وتلك البطاقات عليها بقع حبر غير منتظمة ومتماثلة، ويُطلب من الشخص الذي يخضع للاختبار أن يصف ما يراه في كل بطاقة، وننظر في محددات الاستجابة: هل يركز الشخص على شكل البقعة، أم على لونها، أم على حركتها؟ كما ننظر في محتوى الاستجابة: ما هي الأشياء التي يراها الشخص في البقع؟ وهكذا الأمر في الكشف عن الأفكار والمشاعر والميول. لذلك أؤكد تأكيدًا بليغًا أن المدخل الأخطر والرئيس للمرجفين والمنحرفين هو اللغة التي يستخدمها المتحدثون. ولا يمكن أن نهمل الدور التوعوي الذي يجب أن نقوم بنشر الوعي بين الناس بمخاطر المرجفين وأساليبهم الماكرة، والتنبيه على وجوب التحقق من المعلومات قبل نشرها. ونعمل على تعزيز الوحدة الوطنية بنبذ الخلافات والفتن، ونسعى إلى دعم المؤسسات الوطنية في مواجهة المرجفين، وكل ذلك يساعد في مكافحة التطرف والتصدي للأفكار الهدامة، وبعد فقد أردت بهذه المباحثة اللسانية أن أسهم بدورٍ في بيان الركائز التي نحلل بها الخطاب الإرجافي، وآمل أن يكون له فائدة ونفع