في أعالي جبال السروات، حيث تنام السحب على كتف الوطن، وتتنفس البيوت ألوانها من الحجر الملوّن والخشب المنقّش، نشأت في منطقة عسير وحاضرتها أبها حركة تشكيلية فريدة استمدت جمالها من جغرافيا المكان، وذاكرة الإنسان، وعمق التاريخ، وحكمة النساء اللواتي زيّنَّ جدران المنازل بفنون «القَط». لم تكن هذه الزخارف مجرد ديكور بصري، بل شكلًا بدائيًا من الفن التجريدي والرمزي والفطري قبل أن يُعرّف نظريًا في الغرب. جذور الحركة: من البيوت إلى المعارض تعود بذور الحركة التشكيلية في عسير إلى تقاليد بصرية متجذرة في الثقافة القروية، لا سيما في العمارة والنقش على الأبواب والمكملات الخشبية وزخارف القط العسيري وفنون الأزياء والنسيج المزخرفة والملونة، حيث كان الرجل والمرأة الجنوبية يمارسا الفن بوصفه واجبًا جماليًا وأسريًا وضرورة حياتية. مع بداية السبعينات، تحوّلت هذه الممارسات إلى مسار احترافي بفضل جهود التعليم والثقافة ورعاية الشباب وإمارة المنطقة التي أسست قرية المفتاحة التشكيلية ورعت الفنانين الذين شكّلوا جماعات فنية، والتي اعتُبرت من أهم الحاضنات الرسمية للفن البصري في عسير وعموم السعودية، إذ وفّرت المراسم، والمساحات، والدعم اللوجستي والنقدي، وخلقت بيئة تفاعلية بين الفنانين المحليين والضيوف من كافة مناطق المملكة والعالم. أهم الفنانين وأساليبهم: من أوائل فناني عسير الذين درسوا الفن بمعهد التربية الفنية وأسسوا الحركة التشكيلية بداية السبعينات عبدالله الشلتي، سعود القحطاني، عبدالله حمّاس، مفرّح عسيري، ظهروا كشعراء اللون والضباب عُرفوا بأسلوبهم التأملي الحداثي الذي يستحضر مشاهد أبها وكل المنطقة الجنوبية عبر تقنيات وأساليب مختلفة، من الواقعية إلى الانطباعية للتعبيرية والتجريدية، والسريالة. رسمت لوحاتهم هدوء المرتفعات وشموخ الجبال وضباب ينزل كالحلم على المدينة، رسموا القرى المعلقة في الجبال كرمز للثبات والدهشة، رسموا الإنسان وحياته وأفراحه كعنصر إثارة محمّل بثقافته الأصيلة، ثم تلاهم جيل الثمانينات فايع الألمعي وعبدالله شاهر وحسن حسن عسيري وغيرهم الذين شاركوا بأعمالهم داخل السعودية ومنطقة الخليج والدول العربية. في التسعينات، برزت تجارب مثيرة منها: عبدالعزيز عواجي المفرط حساسية وجمالية ألوان الماء وتأثيرها النفسي، سلطان عسيري المتعدد التجارب بين الرسم والنحت والخشب وكل ما يمكنه النطق بصريا، ماجد عسيري ومحمد شايع بتجريد لوني، عبده عريشي، اسماعيل صميلي، عبدالله البارقي، والتركيبي عبدالناصر الغارم، والمفاهيمي أحمد ماطر، وغيرها من أسماء مهمة كثيرة لها حضور فاعل استمر حتى اليوم واخترقت أعمالهم الفضاءات العالمية. عبدالله شاهر: المعماريّ التجريدي يُجسّد الزخرفة الجبلية بصيغة معاصرة، حيث تتحوّل العناصر النباتية والمباني الهندسية إلى تجريدات لونية مبهرة تُبرز العلاقة بين الأرض والروح. محمد شراحيلي: فنان معلّق بين الأزمنة، يُدمج بين الأسلوب السريالي وتجريد البيئة الجبلية بشكل مذهل، كثيرًا ما يستخدم الحيوانات، الكائنات الطائرة، والجبال والوجوه والحروفيات الراقصة في أعماله. إبراهيم الألمعي: صوت الزخرفة الصامت، من أهم الفنانين الذين وثّقوا جماليات فنون العمارة والقَط العسيري، وحوّله من فن منزلي إلى خطاب بصري معاصر، مستخدمًا جراءة اللون، مع بنية تجريدية تحافظ على ثبات الرموز القَبلية والزخارف. علي مرزوق: الفيلسوف البصري باحث أكاديمي وفنان تحليلي، يستخدم التجريد والأسلوب المفاهيمي والتركيبي في أعماله، ويستند إلى التراث والآثار والتاريخ ليطرح أسئلة معاصرة. وتستحق الحركة التشكيلية في عسير إلى بحث مستقل؛ فالمقال أصغر من سرد ونقد عشرات التجارب الفنية المختلفة والمتعددة، تجارب زاخرة تستحق الإشادة والحفاوة والتكريم، لما لها من قيم إبداعية. قرية المفتاحة وشارع الفن: لم تكن مجرد مجمّع مراسم منذ تأسيسها في التسعينات، بل مركز إشعاع ثقافي بصري. فقد استضافت معارض سنوية، ومعارض فردية وورش عمل، ومهرجانات عززت الحوار الفني بين جيل الرواد والشباب. أما شوارع الفن في أبها وكل محافظات وقرى عسير، فهي تجربة حضرية دمجت بين الجمهور والفنان، وعرضت أعمال مباشرة على الجدران، رسمها كبار الفنانون جداريات ضخمة، جعلت المنطقة تتنفّس الفن وتراث حي يغازل الأجيال. المفردة البصرية بين التراث والتجريب: يمتاز الفن التشكيلي في عسير بتداخلٍ دائم بين المفردات الزخرفية القديمة (المثلثات، المربعات، النقاط والدوائر، الخطوط المستقيمة والمائلة والمتكسرة والمتعرجة) بألوانها الأصلية الصفراء الحمراء الخضراء الزرقاء وتوظيفها الحديث كلغة بصرية، سواء ضمن الرسم أو الطباعة أو حتى النحت الخشبي والطيني، مفردات غنية رغم بساطتها ولها تطبيقات ضخمة في مجالات الفن والتصميم المتنوعة. الفنان العسيري المعاصر في ضوء تلك التجارب الجليلة لا يقلّد التراث بل يُعيد تفسيره، ولا يحاكي الطبيعة بل يُبعثرها أحيانًا، يُشكّلها ويُلونها بلغة العصر، ويمنحها فرصة جديدة للتنفس والامتداد. الفن والسياحة والهوية الوطنية: ساهم إدراج «فن القَط العسيري» في قائمة اليونسكو للتراث غير المادي عام 2017 في تعزيز مكانة الفن المحلي، ورفع الوعي العالمي بقيمته. وبات جزءًا من الهوية السياحية لمدينة أبها، التي تستضيف سنويًا مهرجانات تهدف لتفعيل دور الفن في الحضور المدني والجمالي، واليوم تستقبل عسير مؤتمرات للاستثمار العالمي في المجال السياحي والثقافي والتعديني والزراعي. خاتمة: فن أبها الجنوب ... هوية ترى وتُرى الحركة التشكيلية في أبها وعموم منطقة عسير وما جاورها من قرى ليست مجرد مشهد فني هامشي، بل تيار ثقافي متكامل بمحمولاته الحضارية. هي فنون تنبض بروح المكان، وتحمل ذاكرته، وتمتد إلى الحاضر بأصوات ورؤى جديدة. وقد آن لها أن تُقدَّر لا فقط كموروث، بل كتيار معاصر يُسهم في تشكيل الوعي البصري السعودي، ويصلح أن يُقدم للعالم كأحد أهم أنماط «الحداثة المتجذّرة». * أكاديمي وفنان سعودي