ومعهما وبينهما وبعدهما رائعتان من علامات الطرب والموسيقى العربية تفتقت عنهما عبقرية "رياض السنباطي" و"أم كلثوم" هما: "إلى عرفات الله" لأمير شعراء الفصحى/"أحمد شوقي"، و"القلب يعشق كل جميل" لأمير شعراء الزجل الحاج/ "محمود بيرم التونسي"! يمثل "شوقي" النخبة الغنية التي يراها "طه حسين" البيئة الأفضل لإنتاج الشعر والفن؛ حيث يتفرغ المنتسب إليها للإبداع تماماً فلا يحرق وقته الجري وراء لقمة العيش، ولا يأكل أعصابه القلق على مستقبل أولاده، ولا يمضغ المرض عمره بحثاً عن تأمين صحي؛ فكيف إذا صب عليها القدر شتات الهوية وفقدان الاستقرار التاريخي الجغرافي فيما يلخصه "بيرم" في ثلاث آهات: الأولة مصر قالوا "تونسي" ونفوني/ جزاة الخير وإحساني .. والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني/ وحتى الغير ما صفاني.. والتالتة باريس وفي باريس جهلوني/ وانا "موليير" في زماني.. ولكن يوحد الشاعرين العظيمين حب الوطن، وقد ذاقا في سبيله عذاب النفي والإقصاء من قبل المحتل وعملائه في مصر وخارجها؛ حتى قال شوقي لحافظ: "إن المصائب تجمعن المصابينا"! لم يحج "شوقي" فبدأ رائعته بمدح كلاسيكي ينضح بالمبالغات المقززة قبل أن ينتقل إلى صلب معاناته الوجدانية ليفسر عدم حجه؛ رغم إيمانه العميق قائلاً: ويا رب هل تغني عن العبد حجة * وفي العمر ما فيه من الهفوات؟ وتشهد ما آذيت نفساً ولم أضر * ولم أبغ في جهري ولا خطراتي! ولا حملت نفس هوى لبلادها * كنفسي في فعلي وفي نفثاتي! وحج "بيرم" فبدأ بمدح من لم يجد في حياته مواسياً سواه: "واحد مافيش غيره/ ملا الوجود نوره/ دعاني لبيته/ لحد باب بيته/ واما تجلى لي/ بالدمع ناجيته"! أما السنباطي فرغم أنه لم يحج ك"شوقي"، إلا أنه حج ك"بيرم"! فعصر "الكمنجات" شوقاً وألماً مع الأول، ورفرفها هياماً كأجنحة حمام الحمى مع الثاني! وتجرع الإيقاع الرزين رغم لوعة الحرمان من قلب شوقي، وسقاه وجداً صوفياً وشكشكة مصراوية "فرايحية" من قلب "بيرم" وهو يدخل الروضة النبوية الشريفة! وشرق مع "الست" بدموع حسرة "شوقي"، وأرسل بصوتها دموع فرح "بيرم" وامتنانه: "ياريت حبايبنا/ ينولوا مانلنا/ يارب توعدهم/ يارب واقبلنا"! نقلا عن الوطن السعودية