شيخ كبير أثقلته سنواته السبعون فاستعان بعصيّ لعلها تعينه في مشيته، ظهر أثر هذه السنين من عمر هذا الشيخ على وجهه تجاعيد كالوديان والتلال. ولج هذا الشيخ معرض الملك فيصل ووجهه يتهلل فرحاً ومقلتاه تتلألآن وتشعان بريقا وتكاد روحه تسابقه بعد أن خذلته قدماه. كان يتوقف أمام كل لوحة ويلصق وجهه بها ويقرأ كل حرف سطر فيها، ورغم أن كل الحضور لم يستطيعوا تجاوز لوحة واحدة، إلا أن شيخنا هذا كان يعيش وضعا خاصا خارجا عن الواقع وكأنه قد أدخل روحه بل قل جسده في هذه الصور. فنطق: (إيه أيها الملك فيصل يا من كنت يتيم الأم وأنت ابن خمسة شهور، أشهد الله أن أمك صالحة ابنة رجل صالح، وأن الله لم يضع يتيمها بل جعل الناس تطرب لذكراه حتى بعد موته بعشرات السنين، إيه أيها الملك فيصل: لم تفتنك حضارة الغرب حين أرسلك والدك إلى إنجلترا سفيرا له وأنت ابن ثلاث عشرة سنة فحاولوا إغراءك بما لديهم من حضارة فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لا سيما وأنت الفتى القادم من بلاد لا شيء فيها فصمدت بل قلبت الطاولة على رؤوسهم، ولم تفق إنجلترا من غفوتها إلا بعد أن توجهت إلى فرنسا، لقد أعطيتنا درسا في العزة والكرامة: أن الغرب متى ما تنازلت لهم أذلوك، ومتى ما أعلنت عزتك احترموك. فلله درك فهذا كان شأنك وأنت ابن الثالثة عشرة، فكيف لا يخافك الغرب حين اكتمل نضجك ووقفت تدعم إخوانك العرب في أزماتهم وكانت مقولتك الشهيرة: نحن مستعدون للعيش في الخيام في سبيل شقيقتنا مصر». التفتُّ إلى الشيخ فإذا به قد ألصق نظارته بإحدى الصور، فقلت في نفسي دعني أرى ماذا يشاهد. آه إنه ينظر إلى من بالصورة لعله يبحث عن وجه يعرفه بين تلك الوجوه، تابعت الشيخ فوجدته ما زال يطيل النظر في الصور وكأن روحه تحلق فوقها وهو يردد مقولة الملك فيصل ويقتبس دروسه: لقد أعطيتنا درسا أن النفط هو سلاحنا وأمة ليس عندها سلاح يتجرأ عليها أعداؤها» أين شيخنا؟ إنه يبتسم، من ماذا ؟! دعني أرى، آه، حق له أن يبتسم، إنه يبتسم من عدل الفيصل، حين ساوى بين الفقير والأمير، آه إن حياة الفيصل تذكرنا بسيرة الفاروق سيدنا عمر -رضي الله عنه-، أسأل الله أن تلتقي به أيها الفيصل، مع حبيبنا ونبينا محمد -صلي الله عليه وسلم-. وماذا عن شيخنا أين ذهب؟! إنه جالس هناك أمام الشاشة وعلى أذنيه سماعات يسمع ويرى ما تعرضه من مقابلات وخطب. رأيته يهز رأسه إعجابا بما يسمع، فحرصت على أن استمع إلى ما كان يسمعه، فإذا هي مقابلة مع القناة الأمريكية، فلله درك أيها الملك الحكيم، إجابات عظيمة كعظمة الملك، إجابات قوية، وموجزة، مختصرة مفيدة، لا تردد فيها، بدت عزة المسلم فيها واضحة جلية، وقدمت درسا لمسؤولي بعض الدول، حين يبتسمون للقنوات الأجنبية حتى لتظهر نواجذهم بينما يتجهمون في وجوه مواطنيهم بل ويكشرون عن أنيابهم. والتفت إلى الشيخ فإذا هو قد تسمر في مكانه وقد علاه حزن شديد وأخذ يمسح دموعه، إنه استشهاد الملك فيصل، يوم يذكره الجميع، فقد بكت أمي وأبي وجدي وجدتي وكل الجيران.. بل قد بكى العالم أجمع، مات الملك فيصل. الملك العادل الذي له من اسمه نصيب، ملك يفصل بين الحق والباطل. آه لقد هاجت الأحزان، فتمنيت أنني كنت شاعرا وأملك حروفا لأسطر شعرا رائعا كالذي سطره ابنه الشاعر عبدالله الفيصل. وما زال شيخنا ينهمر الدمع من عينيه، وكلما مسح الدمع من عينه اليمنى سابقتها اليسرى بدمع مدرار غزير كالمطر، ولكن لك الحق أيها الشيخ، فمهما خانتك العبرات، فإنك لا تلام في ذلك وما ذلك إلا لمعايشتك الحدث الجلل الذي لم يحكه لك أحد بل رأيته بنفسك وعاصرته بجوارحك، إيه يا شيخي ما أبكاك؟! آه إنها آخر محطة، إنها خطبة الفيصل الرائعة التي ذكر فيها ما يتمناه المسلم الصادق في إيمانه: أسأل الله أن يقبضني شهيدا إن لم أتمكن من الجهاد لتحرير مقدساتنا». لم يقلها بلسانه فقط بل قالها وقلبه موقن بها ودموع عينه شهدت، وترجمها عمله. صدق الله فأصدقه وعده. نسأل الله أن يتقبل ملكنا شهيدا. ونحن يا الله شهود على عدله وعلى نصرته لدينك، اللهم اجمعنا بهم في مستقر رحمتك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .اللهم آمين.