تعود بي الذاكرة إلى مقاعد الدراسة الابتدائية، ومادة القراءة والكتابة التي كنت أحبها لكن لم تكن تكفي شغفي وولعي بالقراءة، فكانت والدتي تخصص جزءاً من مصروف المنزل تشتري به قصصاً لي ولإخوتي من مكتبة في جدة، حيث كانت القصص فرصة الهروب من النمط الدراسي ونمط المادة الموجودة في الكتب الدراسية، إلى أحضان الخيال والإبداع وتطوير المهارة اللغوية والطلاقة وتوسيع مدارك الطفل، فقد كانت في تلك الأيام مجموعات قصصية ورقية مرفق بها كاسيت (شريط)، تم تسجيل القصة بالصوت ليتمكن الطفل غير القارئ أيضاً أن يتعلم النطق بها، وهو أسلوب كان له أثر في نفوس من عاشوا تلك الفترة. أتذكر في تلك الأيام التي تعود إلى العام 1414ه أنها كانت المحرك الأساسي في نشاطي في الإذاعة المدرسية، خصوصاً أنها صقلت اللغة العربية الفصحى في القراءة ومخارج الحروف أيضاً لها الأثر في الوقوف على الدرج المخصص للإذاعة المدرسية أمام الطالبات. المكتبة وما تحويه من كتب ليس فقط لتعليم العلوم وإثراء معرفتي فقط، بل يتعدى ذلك إلى الثقة بالنفس، وأيضاً تعطي المساحة لجميع الأعمار للتعبير عن أنفسهم، تبدأ من خلال ترك حرية اختيار القصة التي يقرأها إلى المناقشة والحديث مع مرتادي هذا المكان هو أكبر فائدة في مسألة الاحترام وتقبل وجهات النظر، ولو قرأوا نفس الكتاب وفي نفس الحي، فزاوية رؤية الأمور تختلف من شخص لآخر، التعارف والتمازج الذي يحدث داخل هذا المكان النوعي سيجني أكله الوطن بأكمله. سآخذ كندا مثالاً حيّاً على ذلك، حيث كانت وجهتي للابتعاث وتحديداً في تورنتو، من يستخدم رياضة المشي في طرقاتها سيجد سرّ تطور هذه الدولة، سيجد أن في كل شارع توجد المكتبات العامة بكل مستلزماتها، المراجع، الاستعارة، العضوية، أيضاً مساحتها التي تستوعب روادها سواء من قاطني الحي نفسه، أو من أماكن أخرى وهي مجهزة لاستقبال كل الأعمار. إيجاد هذه المساحة وإعطاؤها اهتماماً من قبل المسؤولين هناك؛ أحدَث أثراً كبيراً في تطوير المجتمع فكراً وسلوكاً وخلقاً. هناك مقولة موضوعة على حائط إحدى تلك المكتبات، لا أعلم من قائلها (المكتبة هي المكان الوحيد الذي تنخفض فيه الأصوات، ويعلو فيها صوت العقول). فاصلة الختام: ماذا لو أدرجت مكتبة الحي بحيث تكون قريبة من التجمع السكاني يستطيع أي أحد أن يقضي أوقاته بها دون الحاجة للتفكير بالسيارة أو الزحام أو مع من نذهب، حتى أنه يمكن تنظيم مسابقات على مستوى الحي في القراءة والمناقشة، وذلك من شأنه أن يرتقيَ بالشباب وطريقة تفاعلهم مع الأمور فخير جليس في كل زمان ومكان الكتاب. الكتاب لا يهذب عقل القارئ فقط، وإنما يهذب محيط القارئ، وهكذا تتسع الدائرة لينهض الوطن فكراً وسلوكا وأخلاقا.