موضة «الكدش» اكتسحت بشكل مخيف السواد الأعظم من أبناء الوطن لدرجة أن المرء يتوهم أنه يعيش في أجواء ستينيات القرن الماضي! تلك الأجواء لتي تسيد فيها البياض والسواد شاشات التلفاز، قبل أن تجتاح ثورة التكنولوجيا بألوانها الزاهية عتمة شاشاتنا، لتعيد للأشخاص والأماكن ألوانهم الطبيعية. تحولت هذه الموضة إلى ظاهرة مألوفة جداً في الشارع السعودي بصورة توضح مدى تهاون كثير من الأسر السعودية بمظهر الأبناء، الذي بطبيعة الحال يعطي انطباعاً سيئاً عن مفهوم التربية لدى تلك الأسر. أدرك أن ظهور مثل هذه الظواهر سمة من سمات المجتمعات الحديثة، حيث أكدت عديد من الدراسات والبحوث أن تطور المجتمعات لا بد أن يمر بمراحل لا تخلو من العثرات والسلبيات التي قد تظل على المدى المتوسط أو حتى البعيد إلا أنها تبدأ في الاضمحلال تدريجياً أو على أسوأ الاحتمالات تنحصر بحيث تصبح أقل وهجاً وتأثيراً عن سابق عهدها، بل ربما تضيق إلى أن تصبح مقتصرة على فئة من الناس تُعرف بسيمائها ومظهرها الخارجي، كما هو حاصل في بعض ظواهر الانحراف العقدي والجنسي. لكن أن تتنامى ظاهرة الكدش تحديداً بهذا الشكل المخيف، فهذا يدل على غياب الأنموذج القدوة من ذاكرة الجيل الحالي! وحول هذه النقطة الجوهرية لا بد من إزالة أي لبس قد يتوارد إلى ذهن القارئ الكريم حول هذه الحقيقة المؤلمة، فظاهرة الكدش تجاوزت في أبعادها الاجتماعية نطاق الخصوصية الشخصية إلى أعمق من ذلك بكثير، حيث أصبحت تشكل هوية جيل بأكمله! وهذا الاستنتاج ليس من ثمار ما يُسمّى ب « صراع الأجيال»، فالاختلاف بين الأجيال من سنن الكون التي لا بد أن نتقبلها بوعي واحترام، كما حثّنا الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بمقولته الخالدة « ربّوا أبناءكم غيرَ تربيتكم فإنهم قد خلقوا لزمان غير زمانكم « شريطة أن تعي الأجيال أن الاختلاف في هذا السياق لا يعني الانسلاخ من الأصالة والانتماء، والتهافت على قشور الثقافات الأخرى من منطلق المعاصرة والتمدن، بل ينبغي أن يكون امتداداً لاختلافات وتباينات الأجيال السابقة التي لم تنزلق إلى هاوية القطيعة مع الإرث والمكتسبات. فنحن كمسلمين نستمد من تراثنا الإسلامي كل ما به رفعة للنفس البشرية عن الانحطاط والإسفاف، أسوتنا في ذلك رسولنا الكريم وصحابته الكرام، وهذا من حيث المبدأ كلنا نؤمن به أشد الإيمان، أما من حيث الممارسة الفعلية، فحياتنا الاجتماعية تتناقض مع تلك المثل والقيم الأخلاقية العالية التي أصّلها الرسول الكريم في ثقافتنا الإسلامية والتي ربما يجهلها كثير من أصحاب موضة «الكدش» الذين غالباً ما يدافعون عن غرابة مظهرهم بأنه اقتداء بالرسول الكريم! ولا أعرف حقيقة لماذا اقتصر اقتداؤهم على المظهر الخارجي، وتحديداً في إطالة الشعر ونفشه بشكل غير لائق؟ هذا على افتراض أنه اقتداء بالرسول كما يزعمون، ثم هل من المنطق أن تُترك أفعال وأقوال وتقريرات الرسول إذا كان الأمر يتعلق بالاقتداء؟ إذن حجة الاقتداء في هذه الحالة لا يعتد بها على الإطلاق، بل من غير المقبول محاولة إسكات الانتقادات بهذه الحجة الواهية التي أعتبرها نوعاً من أنواع التجني على حضارتنا الإسلامية العريقة. والحق يُقال إن وجود نماذج عظيمة في سجل التاريخ الإسلامي ليس كافياً بأن يحدث ذلك التأثير العميق في شخصية الشاب المعاصر من خلال تكثيف الخطب الوعظية عبر البرامج الإذاعية والتليفزيونية والتغني بالمآثر والخصال الحميدة لعظماء الأمة في ظل الانحدار الأخلاقي الذي تتنافس مختلف الوسائل الإعلامية على ترويجه بين أوساط الشباب، ناهيك عن أن أغلب المشاهير في مختلف المجالات لا يمتلكون المقومات اللازمة للعب دور القدوة ولو في أدنى مستوياته الممكنة! وهنا أود أن أشير إلى أهمية أن يكون الأنموذج القدوة يتمتع بثقافة وكاريزما وشهرة واسعة لأن معظم المراهقين يميلون بشكل لا شعوري للأشخاص الذين يعيشون تحت صخب الأضواء على اعتبار أنهم نماذج ملهمة ومحفزة على تحقيق الذات بغض النظر عن القيم والمبادئ التي يؤمن بها هؤلاء المشاهير! ولنا في الحضور الطاغي لبعض الحركيين برهاناً على أهمية تلك المواصفات فيمن يتطلع إلى التأثير في السواد الأعظم من المراهقين، فحالة الفراغ التي يعيشها كثير من الشباب بسبب غياب الأنشطة الثقافية والعلمية جعلت منهم فريسة سهلة الانقياد والتوجيه؛ على الرغم من أن هذا الانقياد لم يكن ذا تأثير إيجابي على مظهرهم الخارجي حيث يبدو بعضهم مشابهاً لهيئة بوهيميي أوروبا الشرقية! من المهم أن نعرف أن غياب الأنموذج القدوة جعل مجتمعات الغرب تتخوف من تفشي الأخلاق السيئة بين المراهقين، رغم أن هذا يتعارض مع ما تحفل به ثقافتنا الجمعية عن الغرب خصوصاً فيما يتعلق بالجوانب الأخلاقية، لأننا لم نجد ذريعة مقنعة تبرر الإخفاق التنموي لمجتمعاتنا سوى وصم تلك المجتمعات بالفساد والانحلال الأخلاقي؛ وكأن التقدم والتطور لا يأتيان إلا عبر الرذيلة والفسوق! وفي هذا الصدد، أذكر أنني شاهدت ذات مرة برنامجاً حوارياً على إحدى القنوات الأمريكية وكان محور النقاش حول «الأنموذج القدوة» (role model) كان النقاش محتدماً بين المتحاورين حول من يستحق أن يطلق عليه لقب القدوة، فقاموا باستعراض عدة نماذج منها الممثل والمغني ولاعبو الرياضات المختلفة مثل السلة والبيسبول والركبي وكانوا كلما قدم أحدهم أنموذجاً على أنه من الممكن أن يكون قدوة للنشء، انبرى الآخرون لتشريح أفعاله وسلوكياته إلى أن يتوصلوا بأنه لا يصلح إلى أن يرتقي إلى تلك المنزلة الرفيعة في عقول وأفئدة الشباب! ثم اتفقوا في نهاية البرنامج على أن غياب القدوة ساهم كثيراً في بروز سلبيات كبرى في المجتمع الأمريكي في ظل هبوط مؤشر القيم الأخلاقية لدى غالبية المراهقين الذين يصعب احتواؤهم بمجرد تكثيف الخطب الوعظية والإرشادية في البرامج والمنتديات. أتفهم وأدرك أن بعض الأسر ليست على قدر كاف من الوعي بأساليب التربية الحديثة التي سخّر لها علماء الاجتماع كل ما يملكونه من وقت ومال، رغبة في الحد قدر الإمكان من تصرفات الآباء والأمهات الخاطئة في تربية أبنائهم إلا أن ما لست أدركه ولا أستسيغه ألبتة، هو هذا الاستسلام غير المبرر أمام تمرد الأبناء شكلياً وسلوكياً على كل ما يحيط بهم من قيم وعادات بذريعة أنها فترة مراهقة يمر بها الجميع! هل تجهل تلك الأسر أن وجود مبدأ العقاب والثواب في تربية الأجيال السابقة قلّص كثيراً من احتمالية ظهور مثل هذه الظواهر السيئة أثناء فترة المراهقة لتلك الأجيال؟ ثم هل تعتقد الأسرة السعودية بأن دورها الحقيقي في تربية الأبناء يتمحور بشكل أساس عند مسألة الإنفاق المادي دون المعنوي؟ وليعلم كل ربّ أسرة أن المستوى التعليمي لم يكن عائقاً أمام رجل البادية الأميّ في تربية أبنائه على الفضائل والقيم الأصيلة، فلا يعلّق أحد فشله التربوي على شماعة التعليم وغيرها من الحجج الواهية.