غادر ماجلان ساحل البرازيل على حافة الخط الشرقي لقارة أمريكاالجنوبية وهو يعتمد خريطة مليئة بالأخطاء الجغرافية، وأهم خطأ قاتل فيها أن الممر الموصوف فيها، الذي يشبه الثقب بين المحيطين حُدِّد عند خط العرض أربعين، أي عند خليج ريو دي لابلاتا، حيث يصب نهران عظيمان هناك، يشكلان معاً حذاء المصب خليجاً هائلاً، ترقد على شاطئه اليوم كلٌّ من عاصمتي الأوروجواي والأرجنتين مونتفيديو وبيونس آيرس. هذه الخريطة ضلَّلت الجغرافيين فظنوه المدخل من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي، هذه المعلومة الخاطئة جعلت ماجلان يُزلزَل فلا يعرف كيف يتصرف؟ ولم يبقَ أمامه إلا أن يتابع مسيره إلى الأمام ولو أدى الأمر إلى إثبات نظرية بطليموس الخرقاء، عن اتصال القارة بالقطب الجنوبي، وفيها هلاك السفن ووجود الوحوش المرعبة، والتنينات التي تنفث النار. في هذه الأجواء المحبطة ارتعب البحارة وزاغت أبصارهم، فانتهز الفرصة الربابنة الإسبان فأعلنوا العصيان، ولكن عناد ماجلان وطموحه لمتابعة الرحلة كانت بغير حدود؛ فدخل معهم في اشتباك قاد إلى الدم والإعدامات، انتهت برمي موظفَيْن كبيرين للبلاط الإسباني على الساحل الأجرد عند خليج «خوان خوليان» جنوبالأرجنتين الحالية، وتابع طريقه بحذر شديد إلى الجنوب في جو أعاصير مرعبة من عنف البحر وقساوة الشتاء، مما اضطره إلى البقاء في الشتاء هناك منتظراً الربيع، وفي جو يأس مسيطر استطاع أخيراً أن يعثر على الممر المنشود عند عنق رأس القارة الأمريكيةالجنوبية. كانت لحظة الاكتشاف خالدة مؤثرة، بكى فيها الرجل العنيد العبوس الصامت الأعرج، كما وصفه مؤرخ الرحلة الإيطالي «بيجافيتا». الرجل الحديدي يبكي تالاسا.. تالاسا.. هذه الكلمة ومعناها «اليابسة» التي كان قدماء اليونانيين يحيُّون بها أرض الوطن بعد عودتهم من سفر طويل، تنطلق الآن من الحناجر ولكن بلغة أخرى! هذه اللحظة كانت أعظم لحظة مر بها ماجلان، لحظة ينعم فيها الإنسان بفرح غير محدود لا يذوقه إلا مرة واحدة في حياته؛ فقد تحقق حلم ماجلان الآن، هذا الحلم الذي اكتفى آلاف الناس من قبله بمجرد التفكير فيه. كانت هذه الساعة الفريدة في التاريخ تبرر كل ما فعله ماجلان في حياته التي طبعها بالخلود. فجأة حدث شيء لم يكن أحد ينتظره من هذا الرجل الحديدي فقد غلبه التأثر وخنقته العبرات، وهو الرجل الذي لم يفضح وجهه قط شعوره. إن عينيه تترقرق فيهما الدموع الحارة، التي تنهمر الآن على خديه وتتخلل لحيته الكثيفة، إن ماجلان يبكي من الفرح. ولكن عناء الرحلة والمسافة الفعلية التي سوف يمضيها في المحيط الهائل لم تكن قد بدأت بالفعل؛ إلا أن هذا الرجل غيَّر التاريخ.