- هذه اقتراحات عنت لي إثر ما رأيت من بطء لسير نظر القضايا في المحاكم، أقدمها إلى سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء.. بعد أن خِلت فائدتها لحل معضلة تراكم القضايا وتأبد النزاعات بسبب قلة القضاة، الأمر الذي يثير شكاة الغلبة الغالبة من الناس إن لم يكن كلهم، وذلك حين يقعون فرائس لتطاول العهد على قضاياهم، وهذه الشكاة ستظل ماثلة ما ونى عدد القضاة قاصراً عما يقتضيه زماننا هذا.. الذي غدت فيه القضايا أضعافاً مضاعفة عما كانت عليه... وها أنذا أسوقها في آتي السطور: 1- أولها لزوم تعيين قضاة من أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام، كقضاة شريطة أن يكون قد تصرم على ذلك الذي يعيّن ما يضارع سنوات عشر على الأقل وهو يعمل في الهيئة، فهناك منهم من تخرج في كلية الشريعة ودرسوا الأنظمة في معهد الإدارة وتدربوا أي تنطبق عليهم القرارات الجديدة لمعالي رئيس مجلس القضاء الأعلى.. التي تبيح تعيين خريجي كليات الشريعة الحائزين على دبلوم الدراسة القانونية من معهد الإدارة، كما أن هؤلاء مارسوا التحقيق لعهود طوال في القضايا وإعداد المذكرات الشرعية، وهو صُلب عمل القاضي في المحكمة، إضافة إلى هذا هم يعدون العرائض الخاصة بالادعاء.. ولا مرية أن ممارسة هذا الضرب من أعمال التحقيق لسنين يسدي إليهم تأهيلاً لا بأس به لتولي منصب القضاء، فهذا ما سار عليه القضاء في مصر، فالغلبة من القضاة فيه تولوا القضاء بعد أن لبثوا سنين وهم يعملون في النيابة العامة،.. أي الادعاء، ولا مرية أنه يستطاع التأكد من استعداد الذين يعينون كقضاة من المستشارين الذين يعملون في التحقيق بإجراء امتحان لهم طبقاً للمادة 31/فقرة (د) والتي تقول (أن يكون حاصلاً على شهادة من احدى كليات الشريعة أو شهادة معادلة لها، بشرط أن ينجح في الحالة الأخيرة في امتحان خاص ويعده المجلس الأعلى للقضاء)، وبدهي أن لمجلس القضاء سلطة تقديرية في إجراء تدريب لهم لمدة تضاهي ستة شهور، وأنا هنا لا أتنكب الحقيقة إن ادعيت بأنهم أقدر بكثير من قضاة حديثي التخرج في كليات الشريعة، حتى وإن لازموا عاماً أو عامين، هذا إذا عرفنا أن فقه العبادات الذي ليس له آصرة بالقضاء، هو الذي له الغلبة في مناهج كليات الشريعة وقسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، وليس فقه المعاملات وأحكام الجنايات. 2- أضيف إلى هذا قائلاً بأن هناك من الذين تخرجوا في جامعة الأمير نايف، ذلك الذي درس من قبل في كلية الشريعة.. لذا فإنه يستطاع اختيار بعض منهم كقضاة، فهم في هذه الجامعة يدرسون بتعمق أحكام الجنايات وقواعدها في الشريعة والقانون.. أي أن معارفهم في هذا الجانب أكثر مما هو عند حديثي التخرج في كلية الشريعة، فلو أنهم دربوا وتلقوا دراسات إضافية في الشريعة.. وطبقت عليهم المادة 31 فقرة (د) من نظام القضاء، فإنه يستطاع تعيينهم كقضاة في المحاكم الجزائية إذا ما أنشئت، على أن يتم تعيينهم مبدئياً الآن في المحاكم الجزئية، ويعين الذين في الجزئية في المحاكم العامة فهم سيخففون، ما ينوء به قضاتها من إصر ثقيل سبائبه ما يأتيهم من قضايا لا يتناهى عددها فيتسرمد نظرها قبل البتّ فيها وهو ما يضار به كل من له خصومة. 3- يحسن تكليف غالب القضاة في محاكم المدن الكبرى إذا تطلب الأمر، بعقد جلسات إضافية خارج الدوام أي جلسات في الليل، وذلك خلال ثلاثة أيام أو أربعة من كل أسبوع، وهذا الطلب له من المنطق ما يعاضده يا صاحب السماحة، لأن الإكثار من الجلسات سيسرّع السير في النظر في القضايا، ويمهّد لإصدار أحكام تنهي الخصومات.. في وقت معقول.. الأمر الذي يورث أثراً جد محمود على سير العدالة، فالعدالة البطيئة عدالة قاصرة. 4- قبل أن يتولى سماحتكم رئاسة مجلس القضاء، وعدتم بتعيين مساعدين قضائيين يبحثون في القضايا ويعدونها للقضاة، وذكرتم بأنهم سيكونون شرعيين وقانونيين، وقد تصرَّم على هذا التصريح سنوات ثلاث أو تزيد دون تعيين أحد.. مع أهمية ذلك نظراً لقلة القضاة.. وعهدنا بك يا صاحب السماحة أنك تفي بوعودك.. ولذا فإن لنا آمالاً كباراً في تعيين مساعدين وباحثين يعينون القاضي في عمله.. يستطيعون إعداد القضايا للقاضي وإعداد المراجع وتهيئتها كي يدرسها القاضي دراسة دقيقة ويتعرف على ظاهر القضية وباطنها في وقت وجيز، وهذا موجود في كل بلاد الدنيا.. ويطلق على هؤلاء في المحاكم الفرنسية صفة (assistant).. أي مساعد.. فوجود اثنين أو ثلاثة من هؤلاء مع كل قاض وخصوصاً في محاكم المدن الكبرى التي تكثر فيها الخصومات له لا شك فائدة جد كبيرة لقضاء القاضي، وأيضاً لأصحاب القضايا.. لأن هذا ضمانٌ بأن القضية ستدرس على وجه مكتمل.. ومن ثم يستطيع القاضي إدراك جميع جوانبها.. الأمر الذي يؤدي إلى البتّ فيها دون تأخير. 5- أتمنى أيضاً أن يوصي مجلس القضاء الأعلى بتعديل المادة الخاصة بالمحاكم المتخصصة في نظام القضاء الجديد، ويوضع مكانها (الدوائر المتخصصة) على أن يغيّر اسم المحكمة العامة إلى اسم المحكمة الشرعية الكبرى، التي تشمل الدوائر المتخصصة، ومن ثم تضحي كل القضايا منضوية تحت ولاية محاكم الشرع، ويطلق أيضاً على محكمة الدرجة الثانية محكمة الاستئناف الشرعية بدوائرنا المتخصصة، فتطبيق هذه الأنظمة من قضاة المحاكم الشرعية العامة لا يجحد عليها صفتها كمحاكم شرع.. فالأنظمة أي القوانين هي محض أوامر من ولي الأمر لتنظيم مصالح الناس.. ومن ثم فإنها تحدث حكماً شرعياً وتعد من الشرع، كما قال الإمام ابن القيم.. (انظر: أعلام الموقعين ج1 ص113)، وهذا يعني أن تدريس نظريات القوانين لا يجحد على كليات الشريعة ومعهد القضاء صفتهما الشرعية، ولنا مثال جد كبير في كلية الشريعة بجامعة الأزهر. 6- مباني المحاكم إذا استثنينا الرياضوجدة وربما المدينة مع أن هناك ملاحظات على هذه المباني.. فكل من يختلف إلى مباني المحاكم العادية وكذلك مباني ديوان المظالم يذهل من حالتها الكابية، فهي لا تمثل إطلاقاً هيبة القضاء ومكانته في الإسلام كسلطة تضارع السلطة التنفيذية، فأغلب المباني مستأجر، وبعضها متهالك كما أنها لم تعد لتكون محاكم، فقد كانت منازل أو عمارات حوت شققاً، ومجالس القضاء ليست إطلاقاً صالات للمحاكمة لها احترامها، فهي عبارة عن حُجر أغلبها لا تتعدى مساحته 12 أو 16 متراً مربعاً، أثاثها رث، فمكتب مدير لمكتب مدير، أو وكيل وزارة ولا أقول وزير، أكبر وأبهى بكثير ترتيباً وتأثيثاً من مكتب أي قاض، كما أن مجالس القضاء ليس فيها أكثر من ثلاثة أو أربعة مقاعد وأحياناً أقل، وهذا يتجافى ولزوم عقد الجلسات في العلن وهو ما قضى به نظام المرافعات الشرعية، فالمفروض أن يكون هناك بنايات كبيرة تخصص لكل المحاكم، وعلى أن تكون مصممة في بنائها كي تكون كذلك، وتكون بها صالات متراحبة للمحاكم حسنة التأثيث، وبها مقاعد كثيرة للحضور ويلزم أن تكون الصالة مصممة للجلسات بصفة عامة ولا يختص بها قاض واحد، فالقضاة لهم مكاتب ويذهب أي منهم إلى صالة تعين له حسب الترتيب كي يجلس للناس طبقاً لجدول قضاياه، ثم يعود لمكتبه فهذا ما هو صائر في بلاد الدنيا كلها لأن الجلسات لابد أن تعقد أمام الملأ، وهذا لا يكلف الدولة الشيء الكثير، هذا إذا ماعرفنا أن مبنى لإدارة عادية كفرع للجوازات أو فرع للخدمة المدنية، أو البلدية في أي مدينة أبهى وأحسن من مباني المحاكم رغم أن هذه الأخيرة هي واجهة لسلطة القضاء في الدولة الذي يمثل شرعة الإسلام. 7- ألاحظ أن أناساً كثرا ما انفكوا يتساءلون حيارى لماذا لم تتغير حال القضاء رغم تصرُّم سنوات خمس على نظام القضاء الجديد؟ ولماذا ما برحنا نرى القضاة ينظرون كل قضاياهم من وراء حجاب مزدرين نصوص المرافعات التي تفرض العلانية في جلسات القضاء، وهو أمر جد مهم إذ يكون الناس شهوداً على ما يدور في ساحات العدالة؟ ولماذا ما فتئنا نرى الكثير من القضايا يتسرمد نظرها لأكثر من سنوات أربع أو خمس أو أكثر قبل البت فيها، فيقع أصحابها في إسار التأخير وما يسببه ذلك من عنت وضرار لهم؟ ولماذا ما ونينا نرى القاضي ينظر كل يوم أمشاجاً من قضايا.. فهو ينظر قضية بيع، ثم رهن، ثم طلاق، ثم نفقة، ثم إيجار، ثم يحكم في جنايات؟ ولماذا لم يصدر نظام المرافعات الجديد؟ ولماذا لم يصدر نظام ديوان المظالم الجديد؟ إنهم يرددون هذا القول إذا ما أتوا يتابعون قضاياهم في المحاكم، وأنا أعلم حق العلم أن لا جناح عليكم في هذا.. يا صاحب المعالي.. فقد فعلتم مشكورين ما هو في الوسع... وأنا على يقين بأن أوزار هذا الوضع تقع ولا جدل على كاهل هؤلاء الذين شاء نكد الطالع بأن يكون لهم الحول والطول في تقرير مناهج المعهد العالي للقضاء وكلية الشريعة، فهم يأبون.. أي تطوير لها.. فتبدو وكأن على عيونهم غشاوة، باهلين عما أتى به الزمان من جديد، فهم يحسبون أننا ما برحنا نعيش في العهود الخالية التي أنشئت فيها كليات الشريعة والمعهد العالي للقضاء وهي تذهب صعداً إلى خمسين عاماً.. وفي تيك السنين لم تكن هناك شركات تجارية وأوراق تجارية وعقود عمل ومعاملات بنوك، وجرائم تزوير ورشوة وغير ذلك من الأمور التي صدرت حولها تشريعات وتثور بسببها نزاعات تنظر من لجان نائية عن ولاية محاكم الشرع، والسبب بادٍ لكل عارف بالأمور.. وهو أن خريجي المعهد غير مؤهلين لنظرها، ولا يستطيع أي قاض أن يحكم فيها باقتدار.. إلا إذا كان دارساً للقوانين التي تنظم هذه الأمور، بينما الطالب في كلية الشريعة ومعهد القضاء، والذي يفترض أن يؤهل ليكون قاضياً يحكم في أي نزاع يثور حولها.. هذا الطالب لا يدرسها إذا كان في قسم الفقه المقارن الذي يعين منه القضاة، وحتى الذي يدرسها في قسم السياسة الشرعية فإنه يدرسها على وجه جد ضحل، أما التطوير الذي قيل عن الدراسات.. فإن ما صرح به نفر من القائمين على المعهد حول هذا.. تغشّاه إبهام، فهم لم يحددوا ما هو التطوير، وذلك لواذاً عن الجهر بإبائهم التطوير المنشود، فهم يرون تدريس القوانين وكأنه إثم أو ضلال، وإذا كانوا يقصدون دراسات الماجستير والدكتوراه التي ذكروها، فهي لا تعد تطوراً بحال.. لأنها موجودة من قبل، كما أن دراسةً متعمقة في موضوع معين، أو تحقيق مخطوط قديم للحصول على هذه الشهادة لا يجعل الخريج محيطاً وعارفاً بتفسير وتطبيق الأنظمة السارية، وعليه فإنني أرى بأن لا تترك الأمور للقائمين على المعهد هملاً على الغارب، ولذا فإننا نطالب مجلس القضاء الأعلى الموقر بأن يوصي لمجلس الشورى ولولاة الأمر اقتراحاً بصورية مرسوم ينص على تطوير حقيقي لمناهج معهد القضاء العالي على أن يُضم القسمان فيه وتكون الدراسة فيه أشد عمقاً، ثم يلتحق طلابه بعد التخرج بمعهد للتدريب إذ بهذا وليس غيره يكون التطوير الحقيقي لنظامنا القضائي. * محام ومستشار قانون