لقد أثبتت الأيام أنه برغم بعض الحساسيات العربية الناشئة من طريقة الحياة اللبنانية وتأثيراتها في المحيط، فإن الخطر على لبنان كان ولا يزال من ضيق إسرائيل المزمن بنجاح التعدد الديني والطائفي في لبنان، وبالقبول الذي تتمتع به المقاومة في ربوعه والسمعة العالمية له كوطن ديمقراطي من المقطوعات الأدبية الجميلة في شرح السر الخاص للانتخابات بشكل عام نص أدبي كتبه الناقد الإنكليزي الدكتور جونسون في وصف التفاؤل الهستيري الذي أصيب به الشعب البريطاني بأكمله عند صدور القرار باعتماد الاقتراع الشعبي العام نظاماً في بريطانيا سابقاً لغيره من الأنظمة الديمقراطية. فقد كتب نصاً فكهاً يقول فيه إن كل البريطانيين يعتقدون أن جميع مشاكلهم الشخصية والعامة ستحلّ بمجرد اعتماد الاقتراع العام طريقه في الانتخابات. فالعاطل عن العمل اعتبر أنه سيحصل على عمل دائم بمجرد حصول الاقتراع، والمؤلف غير المقروء اعتقد أن الناس ستتهافت على كتاباته بمجرد حصول الاقتراع، والسيدة العزباء تصورت أنها ستجد رفيق حياتها المنتظر بمجرد صدور القانون، والعاقر أنها ستلد، والطبيب المهجور توهم أن المرضى سيتهافتون عليه، والمحامي أن الدعاوى والقضايا ستكثر وتربح. ولما جاء يوم الاقتراع وانقضى فوجئ كل هؤلاء أن الحياة تظل إلى حد بعيد هي الحياة، وأنها تستمر كما هي وكما كانت دائماً وبقوانينها الذاتية التي لا تتغير كثيراً وبسهولة. لا نقول إن اللبنانيين اليوم مع هذه الانتخابات باتوا جميعاً كما كان الإنكليز أيام الدكتور جونسون، ولكن لا بد من القول إن كثيراً من التوقعات قد لا يتحقق وأن التغيير إذا تم فلن يكون على الأغلب حاسماً إلى الحد الذي يتوقع الكثيرون ذلك أن من طبيعة الديمقراطية الوعود، وما أندر أن تتحقق بالكثافة المتخيلة. من يتابع ردود الفعل على المأساة اللبنانية القائمة بشكل أو آخر منذ 14 شباط وغياب الرئيس الحريري بالشكل الفاجر الذي تم فيه، يتكون في ذهنه انطباع هو أن عالم الأقوياء من أميركيين وأوروبيين لا ينظرون إلى الانتخابات بطبيعة الحال النظرة اللبنانية الشبابية الرومنسية إليها. فالأميركيون والأوروبيون كما تبدو صورتهم الآن في أذهان الأجيال اللبنانية الصاعدة لا يريدون للديمقراطية اللبنانية أن تموت، وهذا واضح في تصرفاتهم. ولكن السؤال الملح: هل هم يريدون لها أن تحيا بالمعنى الكامل والمتوقع الذي لها في عيون الشبان اللبنانيين؟ فالخوف كل الخوف هو أن لا يكونوا كقوى كبرى متحمسين لحياة الديمقراطية بقدر ما هم مكتفون بعدم موتها. وهيهات أن يكون عدم الموت هو الحياة بالمعنى المطلوب. لقد انقضى على الغياب الفاجع لرئيس الحكومة السابق رفيق الحريري مدة غير قصيرة من الزمن. ورغم حزن الأقربين والأبعدين والضجيج المتصاعد عن المساعي الدولية المبذولة لإعادة الحياة في لبنان إلى مسيرتها الأولى منذ فجر الاستقلال تأتي الصيغ المقترحة لتطبيع الأوضاع غير واضحة والمسيرة إليها على التحديد غير ممهدة، في وقت تظل فيه معركة الانتخابات اللبنانية، بكل مشاكلها محركة أشجان الطبقات والطوائف، مثيرة الغرائز والأطماع والحسابات الظاهرة والدفينة لدى القريب والبعيد. فإذا أوغل اللبناني أو غيره في التعمق في طبيعة هذه الانتخابات أذهلته فرادتها وعدم تطابقها مع أي انتخابات سابقة بالمعنيين الحسن والسيئ إنها كما قالت بعض الصحف اللبنانية، الانتخابات الشارحة ذاتها بذاتها، بل والأهم المشابهة ببعض ملامحها لمشاريع انتخابات العراق مثلاً. ولم لا أفليست الانتخابات هي الانتخابات حيثما كانت في أرض العرب. لقد أثبتت الأيام أنه برغم بعض الحساسيات العربية الناشئة من طريقة الحياة اللبنانية وتأثيراتها في المحيط، فإن الخطر على لبنان كان ولا يزال من ضيق إسرائيل المزمن بنجاح التعدد الديني والطائفي في لبنان، وبالقبول الذي تتمتع به المقاومة في ربوعه والسمعة العالمية له كوطن ديمقراطي أمكن قيامه في المنطقة العربية داحضاً المزاعم الإسرائيلية القائلة بأن الشيء الذي يجعل العرب رافضين لها هو رفض الإسلام لأي دين آخر، وهو الافتراء بعينه. بعد خمس سنوات على انسحابها الأحادي من جنوب لبنان، تخشى إسرائيل من أن تصور الجماعات الفلسطينية المسلحة مثل حركة حماس انسحابها الوشيك من قطاع غزة انتصاراً لنضالها ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر حوالي 40 عاماً. وكانت إسرائيل قد استكملت في 24 أيار 2000 سحب قواتها من جنوب لبنان بعد 22 عاماً من الاحتلال، وأعادت نشرها على طول الحدود المعترف بها دولياً بين البلدين طبقاً لقرار مجلس الأمن رقم 425. لا تنقطع إسرائيل عن التحريض على لبنان بتصوير الحركات الفلسطينية الأشد رفضاً لنظامها كحركة حماس بأنها وليدة المناخ الوطني الديمقراطي اللبناني. وبعد خمس سنوات من الانسحاب، يعاني صانعو القرار الإسرائيلي الآن من مخاوف من أن ذلك الانسحاب سيؤدي إلى سفك دماء على طول الحدود، في الوقت الذي يسعون فيه إلى المضي قدماً في خطة سحب كافة القوات الإسرائيلية والمستوطنين اليهود من قطاع غزة الذي تحتله إسرائيل منذ حوالي 40 عاماً. وتتزايد المخاوف بين الإسرائيليين في أن تعتبر الجماعات المسلحة مثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الانسحاب التاريخي الذي من المقرر أن يبدأ في منتصف آب، نصراً مدوياً في نضالها ضد الاحتلال. تعزو إسرائيل من ضمن استراتيجية إصابة عصفورين بحجر واحد إلى التأثير اللبناني داخل حركة حماس، الناتج عن طبيعة الحياة اللبنانية، بأنه يضاعف وتيرة المقاومة لها على أرضها وخارج هذه الأرض. تأمل من وراء ذلك التفريق بين من تسميهم الفلسطينيين الآتين من لبنان، والفلسطينيين الناشئين ولادة وعمراً على الأرض الفلسطينية نفسها، على أساس أن الواحد من الاثنين أكثر أصالة داخل فلسطين من الآخر. لا تنسى إسرائيل العبرة التي سادت في العالم العربي قبل خمس سنوات حيث اعتبر الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بمثابة درس مفاده أن الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر أقوى جيش في المنطقة يمكن أن تهزمه قوة صغيرة فلسطينية عربية تشن حرب عصابات. تأخذ إسرائيل على لبنان، ويا للعجب، نشوء حزب الله فيه وتحوله من منظمة صغيرة متطرفة إلى قوة سياسية أساسية، تحولت إلى مثال تحتذي به حماس. هذا ما تقوله إسرائيل، ولكن الدراسة المعمقة للخطاب السياسي الإسرائيلي تشير إلى ضيق الإسرائيليين بجو الديمقراطية اللبنانية الذي يولّد ويعطي شرعية لفكرة المقاومة. إن المعروف عن إسرائيل أنها كانت دائماً تضيق بالجو الوطني اللبناني الجامع للمسلم والمسيحي، وطالما تردد فيها أن اللبناني نجيب العازوري هو أول من نبّه العرب على خطر الصهيونية عليه. بل لماذا نذهب إلى البعيد وكلنا يعرف المكيدة التي دبّرها في مطار نيويورك الصهاينة لرئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق سليمان فرنجية في رحلته الشهيرة لالقاء كلمة باسم العرب في الأممالمتحدة. لقد ساهم اللبنانيون في إعطاء أفق إنساني للقضية الفلسطينية وساهموا في تقديمها للعالم بشكل غير فئوي وأظهروها كقضية إسلامية مسيحية معاً، وهذا ما أثار أحقاد إسرائيل الخاصة على لبنان كوطن وكشعب. ولقد ازدادت أهمية لبنان في ميزان كل قومي عربي منذ أن اتضح أن السلاح الأفتك ضد إسرائيل هو خلق دول عربية مفتوحة لجميع أبنائها بالداخل ومحاورة من موقع إنساني شامل للخارج.